احنا هنا

٢٠ يوليو ٢٠٢٥

واقع الصحفيات في مصر: تمييز ممنهج وإقصاء متعدد الأشكال

قامت بكتبتها / يمنى حسن

في إطار حملتنا "صحفيات بلا حماية"، التي تطلقها مبادرة جندريست بالتعاون مع مركز تدوين لدراسات النوع ، نسلط الضوء على واقع الصحفيات في مصر، حيث تتقاطع الضغوط المهنية مع أنماط العنف والتمييز.


في ظل مناخ عام خانق للعمل الصحفي في مصر، حيث تتعرض المهنة لضغوط غير مسبوقة وتراجع حاد في هامش الحريات، تواجه الصحفيات واقعًا أكثر قتامة، تتقاطع فيه أنماط العنف والتمييز، ويغيب عنه الحد الأدنى من الحماية والمساءلة. لا يقتصر الأمر على تقلص المساحة المتاحة للإعلام المستقل، بل يتجاوزه إلى منظومة تكرس التمييز ضد النساء، وتُقصيهن ببطء، وتُراكم ضدهن انتهاكات متعددة، حتى بات وجودهن المهني مهددًا ليس بالصمت فحسب، بل بالإزاحة الكاملة.



تمثيل هامشي في مراكز القرار:


لقد تجاوز واقع الصحفيات في مصر مرحلة التجميل أو التبرير؛ نحن أمام مشهد يتطلب المواجهة، وطرح الأسئلة المؤجلة، وكسر جدار الصمت. رغم الحضور المتزايد للنساء في غرف التحرير،  إلا أن تمثيلهن في مواقع صنع القرارلا يزال هامشيًا؛ ففي المجلس الحالي لنقابة الصحفيين الذي يضم 12 عضوًا، لا يوجد سوي سيدة واحدة. والأمر ليس جديدًا؛ فمنذ تأسيس النقابة عام 1941، لم يتجاوز عدد الصحفيات اللواتي شغلن عضوية المجلس تسع نساء فقط. وتكشف الأرقام أن نسبة تمثيل نسبة تمثيل النساء في 15 مجلسًا متتاليًا تراوحت بين 7% و23%، في تجاهل صارخ لحقيقة أن النساء يشكلن نحو 43% من أعضاء الجمعية العمومية للنقابة.  "من بيان صحفي  أطلقته نظرة للدراسات النسوية بعنوان توصيات إلى مجلس نقابة الصحفيين لضمان تمثيل الصحفيات في مواقع صنع القرار وتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص"


والأكثر إثارة للاستياء هو ما يُعرف بـ"العرف" الذي يحصر المنافسة بين الصحفيات على مقعد واحد، وكأن صوت النساء لا يستحق أكثر من تمثيل رمزي هذا التهميش ليس مجرد إحصاءات، بل هو انعكاس للبنية المجتمعية التى ترفض الاعتراف بالنساء كصانعات قرار. 



تمييز في الأجور وشروط العمل:


 لا يقتصر التمييز على التمثيل النقابي، بل يمتد إلي الفجوة في الأجور وشروط العمل، فمصر تحتل المرتبة 134 من أصل 144 دولة في مؤشر الفجوة بين الجنسين، وتكسب الصحفيات أجورًا تقل بنسبة 32% عن زملائهن الرجال في نفس الوظائف حسب "تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 2021 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)" - تقرير التمييز في الأجور لشبكة الصحفيين الدوليين . لكن المشكلة لا تتوقف عند هذا التفاوت، بل تشمل استبعاد النساء من الحوافز والمكافآت، وحرمانهن من التعاقدات القانونية، ما يجعلهن عرضة للفصل التعسفي، خاصة بعد الزواج أو الإنجاب أو حتى التعبير عن الرأي.



تحرش جنسي وإلكتروني مسكوت عنه:


 لا تتوقف الانتهاكات عند حدود المؤسسات، بل تمتد لتطال أجساد الصحفيات وأعصابهن. فالتحرش الجنسي في أماكن العمل وأثناء التغطيات الميدانية بات ظاهرة مسكوتًا عنها، بينما تحول التحرش الإلكتروني  إلى إداة لإسكاتهن؛حيث أوضحت نتائج المسح العالمي لليونسكو حول العنف عبر الإنترنت ضد الصحفيات، والذي نُشر ضمن تقرير صادر خلال المؤتمر العالمي لحرية الصحافة لعام 2020، عن أرقام صادمة تعكس حجم المخاطر الرقمية المتصاعدة التي تواجهها الصحفيات حول العالم فقد أفادت 73٪ من المشاركات بتعرضهن للعنف إلكتروني أثناء أداء عملهن، في حين تلقت 25٪ تهديدات مباشرة بالعنف الجسدي، وتعرّضت 18٪ لتهديدات بالعنف الجنسي و الأخطر من ذلك أن 20٪ من الصحفيات أكدن تعرضهن لهجمات في الواقع، جاءت نتيجة لما تعرضن له من عنف عبر الإنترنت و تعكس هذه الأرقام كيف تجاوز العنف الرقمي حدود الفضاء الافتراضي، ليصبح خطرًا حقيقيًا يقوّض أمن الصحفيات وسلامتهن في بيئة العمل وخارجها، دون أن تتحرك المؤسسات الإعلامية لحمايتهن، بل  يُطلب منهن في كثير من الأحيان "الصمت" و"التحمل"، وكأنهن المسؤولات عن العنف الموجه ضدهن.


لا تقتصر الانتهاكات على الجانب المهني، بل تمتد إلى الآثار النفسية والاجتماعية المدمرة، التي يعاني منها عدد كبير من الصحفيات، مثل: القلق المزمن والاكتئاب، والعزلة الاجتماعية وفقدان الثقة بالنفس، والإرهاق المهني والخوف المستمر من الانتقام



غياب البيئة الآمنة واللوائح العادلة:


 لا توفر أغلب المؤسسات الصحفية بيئة آمنة أو عادلة بعض الصحفيات.فاستبيان نقابة الصحفيين الأخير في 2024 كشف أن 17% من العاملين لا يتقاضون رواتب، وأكثر من 51% يعملون دون لوائح مالية أو حد أدنى للأجور. و في المقابل، ترفض النقابة حتى الآن إقرار سياسات صارمة للحد الأدنى للأجور، أو لحماية الصحفيات من العنف والتمييز.



المجال الرقمي: أمل لم يتحقق:


حتى في المجال الرقمي، الذي شكّل أملًا للصحفيات، تتكرر الأزمات ذاتها. فمع انخراط عدد كبير منهن في العمل بالمواقع الإلكترونية، لا تزال هذه المنصات تُدار بعقلية ذكورية تقليدية؛ إذ تُسند المهام السياسية والاقتصادية إلى الرجال، بينما تُحصر النساء في تغطية الثقافة والفن وقضايا المرأة. كما أن  الفجوة في الأجور والترقيات لا تزال قائمة، بل وتتسع، في غياب أي آليات تنظيمية عادلة. 



غياب الحماية القانونية: إقرارات تنتقص من الحقوق الأساسية:


 اللوائح الداخلية في المؤسسات الصحفية لا تعترف بالتمييز القائم على النوع الاجتماعى، ولا تضمن للنساء الحق في الأمومة أو الحماية من الفصل لأسباب أسرية. هذا الغياب للضمانات يجعل الصحفيات عرضة لانتهاكات متكررة دون أي سند قانوني يحميهن.


في انتهاك صارخ للحقوق الدستورية، تُجبر بعض الصحفيات على توقيع إقرارات تمنعهن من الزواج خلال فترة التدريب، أو تفرض عليهن الامتناع عن الحمل أثناء فترة التعاقد. وكأن الحياة الشخصية للنساء أصبحت ملكاً ومصير يخص المؤسسة الإعلامية وحدها، و تحولت إلى "عائق مهني" يجب تجنبه، وليس حقًا طبيعيًا يكفله الدستور والقوانين الدولية



غياب الحماية النقابية: لجنة المرأة نموذجًا


رغم كل هذه الانتهاكات،تظل نقابة الصحفيين غائبة  في أي لحظة عن أداء دورها في الدفاع عن حقوق الصحفيات.  فـ"لجنة المرأة"، التي تأسست عام 2021، لم تتلقَ سوى شكوى واحدة خلال أربع سنوات. هذا الرقم الكارثي لا يعكس غياب الانتهاكات، بل يكشف عن أزمة غياب الثقة في النقابة وآلياتها. فمعظم الصحفيات يرفضن التقدم بشكاوى خوفًا من الوصم الاجتماعي، أو الانتقام الإداري، أو حتى الفصل  التعسفي من العمل. وتفاقمًا للأزمة، لا توجد سياسات واضحة، ولا لجان تحقيق مستقلة، ولا مدونة سلوك مفعّلة، رغم المطالبات المتكررة منذ عام 2019. 



ثقافة مجتمعية معيقة: 


 ولا تنتهي قائمة المعوقات عند المؤسسات إلي هذا الحد، بل تمتد إلي الثقافة المجتمعية التي تُستخدم كسلاح ضد الصحفييات المرشحات للنقابة، حيث تُشوه صورتهن باستخدام حجج تتعلق بـ"الأمومة" أو "المسؤوليات الأسرية". بعض الصحفيات لا يجدن الدعم من زميلاتهن في الانتخابات بسبب قناعات اجتماعية متجذّرة في الوقت ذاته. كما أن غياب التسهيلات اللوجستية،حضانات الأطفال أو مرونة في إجراءات التصويت، يحول دون مشاركة فعالة للصحفيات 


 في ظل تدهور الحريات الصحفية، تصبح معاناة الصحفييات أكثر تعقيدًا. فهناك أكثر من 25 صحفيًا وصحفية قيد الحبس الاحتياطي، من بينهم ما لا يقل عن أربع صحفيات. يحاكمون على خلفية قضايا نشر دون حماية قانونية فعالة، في ظل غياب قانون لحرية تداول المعلومات، رغم كونه استحقاقًا دستوريًا منذ 2014 .



مطالب عاجلة: من الرمزية إلى الفعل : 


لا يمكن الحديث عن تمكين حقيقي للصحفيات في ظل غياب الإرادة السياسية والفعلية لنقابة الصحفيين في تطوير سياسات فاعلة تحمي حقوقهن.  فالنقابة، التي يفترض أن تكون الحصن الأول للدفاع عن العاملين والعاملات في المجال الصحفي، تتخلف عن أداء دورها في حماية الصحفيات على المستويات، من عدم ضمان حد أدنى للأجور أو مساواة في الرواتب، و غياب الحماية من التمييز أو الفصل التعسفي، و تقاعس عن تمثيل النساء في مواقع صنع القرار.


تعمل الصحفيات في إطار قوانين تنظيم العمل الصحفي التي عفا عليها الزمن، ولم تعد تلبي متطلبات العصر الرقمي أو احتياجات الصحفيات المستقلات. والنتيجة بيئة عمل منهكة بسبب غياب الضمانات الأساسية، وغير عادلة مع استمرار الفجوة بين الجنسين، وغير آمنة للنساء حيث تتفشى انتهاكات الحقوق دون محاسبة. هذا الواقع المُزري لا يتناسب مع تاريخ الصحافة المصرية العريق، ولا مع مكانة النساء اللواتي ساهمن في صنع هذا التاريخ.


لم يعد التغيير مجرد خيار يمكن تأجيله، بل أصبح ضرورة ملحة لإنقاذ ما تبقى من مهنة الصحافة. فبدون الاعتراف الجاد بالانتهاكات التي تواجهها الصحفيات، وتنفيذ المطالب المتعلقة بإصلاحات هيكلية تبدأ من داخل المؤسسات والنقابة، ومن ناحية أخري ان تكون هناك ضغوط مجتمعية مستمرة للمطالبة بالحقوق.


وإلا سيظل المشهد الصحفي في مصر يعكس عنفًا مجتمعيًا مُقننًا، لا يرحم من اختارت القلم سلاحًا. 



إنجازات رغم الجحيم... لكن الصمت لم يعد ممكنًا


رغم كل الظروف القاسية، حققت الصحفيات المصريات نجاحات لافتة، لكنهن لم يعدن يحتملن الصمت . لقد وصلن إلى نقطة اللاعودة، حيث لم يعد بالإمكان قبول التمثيل الرمزي الذي لا يغير الواقع، واللجان الشكلية التي تفتقر إلى الصلاحيات، والوعود الجوفاء التي تتبخر مع الوقت.


 بل خطوات فورية وفعالة تبدأ من إقرار مدونة سلوك صارمة وسياسات تلزم المؤسسات بحماية الصحفيات من التمييز والتحرش، وإنشاء آليات شكاوى مستقلة تضمن محاسبة المعتدين دون خوف من الانتقام، وتوفير بيئات عمل آمنة وعادلة تشمل تدابير لحماية الصحفيات جسديًا ونفسيًا، وتمثيل عادل للنساء في كل المستويات، من غرف التحرير إلى مجلس النقابة.


هذه ليست مطالب ترفيهية، بل حقوق أساسية تكفلها المواثيق الدولية والدستور المصري.


فالقضية هنا لا تتعلق بـ"نساء ضد رجال"، بل هي معركة أوسع، هي نضال من أجل تحقيق العدالة ضد منظومة الظلم، وكرامة ضد محاولات الإقصاء والتهميش، وإنسانية ضد انتهاك الحقوق الأساسية.

مقالات اخري

article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
ملاذ بلا عدالة” هل يتجاهل القانون المصري جرائم العنف الجنسي ضد الناجيات السودانيات”
فرضت حرب 15 أبريل 2023  بالخرطوم واقعاً امنياً مختلفاً للنساء السودانيات وجدت آلاف النساء السودانيات أنفسهن مضطرات لعبور الحدود نحو مصر، حاملات معهن ذاكرة الحرب و واقعًا جديدًا لا يقل قسوة عن  الواقع الذي هربن منه،  فمخاطر  العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي لا تعرف الحدود فتلاحقهن حتى في المنفى  بينما تعيق الحواجز الاجتماعية والقانونية […]
قرائة المزيد
article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
كيف زاردت الولادة القيصرية بهذا القدر ؟
أسباب ارتفاع نسب الولادات القيصرية: بين الطب والمجتمع والتجربة الشخصية اتت الولادات القيصرية كحل طبي للولادات المتعسرة أو الحرجة ولكن سرعان ما تبدل الحال في السنوات الأخيرة  بازدياد مبالغ فيه للولادات القيصرية مقابل الطبيعية بشكل لافت في كثير من دول العالم، ولا سيما في العالم العربي وحظيت مصر بأعلى نسب الولادات القيصرية حيث وصلت الى  […]
قرائة المزيد