شهدت الرياضة النسائية في السنوات الأخيرة تحولات غير مسبوقة، حيث حققت مشاركة النساء في الألعاب الأولمبية لعام 2024 نسبة قياسية بلغت 50% للمرة الأولى في التاريخ،مقارنة بنسبة 2.2% في العقود الماضية وفقاً لإحصائية صادرة من الأمم المتحدة للمرأة عن مشاركة النساء في دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في باريس 2024 .
ويأتي هذا التطور بالتوازي مع إقرار الحق في ممارسة الرياضة، وهو موضوع تناولته المواثيق الدولية – وبالأخص "الميثاق الدولي للتربية البدنية والنشاط البدني والرياضة" الصادر عن اليونسكو – رغم أن المواثيق الدولية قد اعترفت مبكرًا بأهمية الرياضة كحق إنساني، إلا أن المجتمع الدولي بدأ مؤخراً يُعلي من شأن الرياضة أكثر من أي وقت مضى.
إذ صارت تُنظر إليها لا كوسيلة ترفيه فحسب، بل كقوة ناعمة قادرة على الإلهام وتوحيد الشعوب من مختلف الثقافات، وتعزيز القيم المشتركة مثل التنوع، والنزاهة، والاحترام، وبناء السلام. هذا التحول في النظرة عزّز من دور الرياضة كوسيلة فعّالة لإحداث التغيير الاجتماعي على جميع الأصعدة، بدءاً من ممارسة الرياضة الشعبية وصولاً إلى ساحات البطولات الدولية.
وعلى الرغم من هذا التطور و الازدهار في مجال الرياضة النسائية، فإن المشاركة لا تزال محصورة في طبقات المجتمع في الدول المتقدمة أو ما يُعرف بدول العالم الأول، حيث أُولي الاهتمام البالغ لهذا القطاع على جميع المستويات، بداية بالترغيب و التوعية بأهمية الانشطة الرياضية للنساء، و بث الثقافة الرياضية داخل المدارس والمؤسسات التعليمية، مرورًا بإنشاء نوادٍ وفرق تدريب، والدعم في المنافسة على المستويين الإقليمي والدولي. هذا التشجيع المؤسسي والاجتماعي أثمر في تطوير هذا الجانب، وازدهار وتنوع مصادر التمويل، حيث تحوّل التمويل من المؤسسات إلى الاعتماد على التمويل الذاتي، مما جعل الفرق والأندية قادرة على تطوير المساحات والمنشآت الرياضية الخاصة بالنساء.
و في المقابل، تختلف أوضاع النساء ومشاركتهن في الرياضة تمامًا في الدول النامية، حيث تتعدد وتتباين أشكال المعاناة، ويتجلى التهميش بشكل واضح في هذا السياق. فالنساء عمومًا يواجهن أشكالًا متعددة من التمييز، وتزداد أوجه التمييز وفقا للعوامل الجغرافية، والعادات الاجتماعية، و الثقافة التي تنشأ فيها النساء. على سبيل المثال، تختلف أوضاع النساء في المجال الرياضي في القاهرة أو في أي مدينة كبرى وبين وضع النساء في الصعيد - محافظة أسوان- مثلاً، فهنا تأخذ هذه المعاناة أبعادًا أعمق وأكثر تعقيدًا، بينما يُسمح للنساء في العاصمة بالمشاركة بشكل محدود، لا تزال الفتيات في المناطق الحدودية والتي تسودها القبيلة محرومات من أدنى الفرص الرياضية، إما بسبب غياب البنية التحتية، أو بفعل القيود الاجتماعية الصارمة، أو الثقافة العامة، أو المفاهيم الخاطئة المتداولة حول الرياضة النسائية.
تناولت الأستاذة "لمياء حسن" في معرض اطروحتها بعنوان " الرياضة النسوية: واقعها وأسباب تدنيها، وأساليب الارتقاء بها" مجموعة من العوامل التي تفسر ضعف مستوى مشاركة النساء في الأنشطة الرياضية، منها العوامل الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد والنظرة الضيقة تجاه دور النساء، إضافة إلى العوامل النفسية والظروف الصحية والدراسية والمهنية، وأخيرًا نقص البنية التحتية الرياضية وارتفاع تكلفة الأدوات والمعدات. و إضافة إلى ذلك الفروقات الواضحة في الأجور المتعلقة بالنساء في المجال الرياضي التي لا تلبي احتياجات المدربات و الفرق بالقدر الكافي وهذا ما يعزز من عزوف النساء عن المشاركة في الساحات الرياضية النسائية.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحقيق تنمية وإدماج النساء في مختلف مناحي الحياة، يظل الحق في ممارسة الرياضة يفتقر إلى الاهتمام الكافي. فهذا الحق لا ينبغي أن يُطرح كشعار أو مبدأ نظري فحسب، بل يجب أن يُقر باعتباره حقًا أصيلًا، يُؤكد عليه بشكل واضح، وتتخذ التدابير العملية لتحقيقه على أرض الواقع.
وفي هذا السياق، تبدو الحاجة الماسة إلى صياغة رؤى واستراتيجيات تنموية شاملة، تتبنى مقاربة حساسة للنوع الاجتماعي، تضع في الاعتبار دمج النساء والفتيات في السياسات الرياضية بشكل فعّال ومنهجي. كما أن غياب الاهتمام الجندري الكافي يعرقل تنفيذ هذا الحق، ويجعله عرضة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيق تحقيقه.
ولذلك، لا يكفي إنشاء الملاعب أو تنظيم الفعاليات الرياضية، بدون تقييم تلك المساحات و مدى قدرة الفتيات والنساء على الوصول الفعلي إليها، ومدى شعورهن بالأمان والدعم،وملائمة البيئة الرياضية لاحتياجاتهن.
لتحقيق ذلك، يُعد من الضروري اتخاذ تدابير عملية، من بينها تخصيص ميزانيات " موازنات جندرية" واضحة تهدف إلى إنشاء وتطوير مساحات رياضية آمنة وشاملة، تُمكّن النساء والفتيات من ممارسة الرياضة بحرية وكرامة ، مع مراعاة الفجوات بين الفتيات والفتيان في فرص ممارسة الرياضة، وإعادة توزيع الموارد بشكل يحقق العدالة وليس المساواة الشكلية فقط.
لا ينفصل تمكين النساء رياضيًا عن الدور المجتمعي، الذي ينبغي أن يُضطلع بمسؤولية تشجيع الفتيات والنساء على ممارسة الرياضة، باعتبارها حقًا أصيلًا، لا منحة أو ترفًا. الرياضة ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل لها فوائد صحية ونفسية واجتماعية مثبتة، مثل تعزيز الثقة بالنفس، تحسين اللياقة والصحة العامة، وتوسيع دائرة العلاقات والدعم الاجتماعي.
من هنا، تبرز ضرورة التوعية المجتمعية كخطوة أساسية، لتفكيك الصور النمطية، وتطبيع ممارسة النساء والفتيات للرياضة. ويمكن للمبادرات الأهلية أن تلعب دورًا محوريًا في هذا الإطار، من خلال توفير مساحات خاصة وآمنة للنساء والفتيات، وتنظيم مواعيد الاستخدام في مراكز الشباب والأندية الرياضية بما يراعي احتياجات جميع الأطراف.
ولا نغفل أهمية المشاركة المحلية، من خلال وجود فرق رياضية نسائية على المستوى المجتمعي، لتعزيز فرص الضغط لتخصيص مخصصات حكومية للرياضة النسائية، أو جذب الدعم الخارجي، الذي من شأنه أن يُحدث تأثيرًا حقيقيًا في تحسين البنية التحتية وتطوير البرامج والسياسات.
وفي حديثها مع جندريست، أوضحت آية "شابة من مدينة أسوان" :
"نعم، هناك مساحات مخصصة لممارسة الرياضة في أيام و أوقات متعددة، ولكن توجد عقبة واحدة تتعلق بالتمويل،إذ أن بعض الاماكن المخصصة تكون باهظة الثمن. أعتقد أن وجود المساحات الخاصة بالنساء ضروري جدًا، و سيساهم في نمو الأنشطة الرياضية وتشجيع البنات على المشاركة بثقة أكبر، و تحفيزهم على تجربة أنواع مختلفة من الأنشطة الرياضية".
وتضيف:" بالتأكيد، هناك فروقات بين الفرص المتاحة للنساء والرجال في المجال الرياضي، حتى في نفس المدينة. كما أن الفرق واضح جدًا بين ما نحظى به هنا في أسوان وبين ما يتوفر في المناطق الأكبر أو العاصمة تحديداً. نحن بحاجة إلى مساحات مخصصة، ووعي مجتمعي أكبر يدعم الرياضة النسائية، إلى جانب تخصيص أوقات ومرافق خاصة لضمان بيئة آمنة ومحفزة للفتيات، كما نحتاج إلي تطوير الأنشطة الرياضية المتاحة وجلب أساليب جديدة تُغني عن السفر من أجل الحصول عليها.
إن تمكين النساء والفتيات في المجال الرياضي لا يجب أن يظل حبيس الوعود أو جزءًا هامشيًا في الخطط التنموية، بل قضية مركزية ترتبط بالعدالة الاجتماعية، والحق في المساهمة، والتنمية المستدامة. فالطريق لتحقيق مشاركة رياضية عادلة شاملة لا يمر فقط عبر البنية التحتية، بل عبر تغيير العقليات، وتوفير الدعم المالي والمعنوى، وإشراك المجتمع في تعزيز حق النساء في ممارسة الرياضة كأولوية.
اليوم، نحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، ومجتمع مدني واعٍ، وتخطيط حساس جندريًا، ليكون لكل فتاة في أسوان، كما في القاهرة، فرصة متساوية للتعبير عن ذاتها بحرية وتثبيت خطواتها على أرض الملعب، حقوقها مصانة بشكل كامل، وتُسمع صيحاتها كجزء أصيل من مشهد رياضي لا يُقصي أحدًا.