احنا هنا

١٠ ديسمبر ٢٠٢٤

ندوب غير مرئية: كيف يؤثر التحرش على حياة النساء والفتيات

قامت بكتبتها / محمد بركات

أنا مليكة، عمري 20 عامًا (اسم مستعار). سمعت كثيرًا عن جريمة التحرش، وأدركت أن هناك العديد من أنواعه، ليس فقط التحرش الجسدي، بل أيضًا التحرش اللفظي الذي يُعدّ جريمة. كانت وقائع التحرش تحدث للعديد من زميلاتي، سواء من المعارف أو من المقربين. وبسبب هذه الحكايات الكثيرة، أصبحت قادرة على تقديم الدعم النفسي لصديقاتي في أي وقت.

منذ 6 أشهر، جاءت صديقتي "منة" (اسم مستعار) في حالة شديدة من الانهيار بسبب واقعة تحرش حدثت لها في سوق مزدحم جدًا. بدأت بمساعدتها نفسيًا، محاولًا رفع معنوياتها من التفكير السلبي وحالة الاكتئاب. لم يكن الأمر سهلاً عليها، لكن مع الوقت تعافت نفسيًا وأصبحت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية.

الصراحة، لأنني لم أتعرض من قبل لأي واقعة تحرش، كنت أظن أن صديقاتي يُبالغن قليلاً. كنت أفكر: "ما المشكلة طالما أن الموقف انتهى دون ضرر جسدي؟ لماذا كل هذا الحزن والاكتئاب؟" لم أكن أعلم أن هذا التفكير كان نتيجة لعدم تعرضي لتجربة واقعية كالتي عانين منها.


من داعمة إلى ناجية


ذكرت لي مليكة أثناء حديثها مثلًا شعبيًا: "اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار" ثم انتقلت للحديث عن الجانب المظلم من قصتها، وهو لحظة تحولها من داعمة إلى ناجية. قالت: "منذ 4 أشهر، كنت في إحدى الميكروباصات. جلس بجانبي رجل ذو ملامح غريبة ومريبة، وعند كل مطب، كان يميل بجسده نحوي. حاولت الابتعاد، لكنه بدأ بتحريك أصابعه نحو منطقة حساسة في جسدي. نظرت إليه سريعًا، فقال: 'لا مؤاخذة يا أستاذة، ما خدتش بالي'.


تملكني التوتر، ولم أستطع فعل شيء. بعدها، عاد ليحرك يده على جسدي. شعرت بارتفاع في نبضات قلبي، ودخلت في حالة صدمة لم أفق إلا عندما طلب من السائق التوقف ونزل من السيارة. لم أستطع إصدار أي رد فعل، وشعرت حينها بكمية هائلة من الانكسار والاحتقار لنفسي بسبب عدم تصرفي بالشكل الصحيح مع المتحرش."


التعافي والدعم النفسي


عندما سألتها عن سبب عدم قدرتها على تطبيق خبرتها السابقة في الدعم النفسي على نفسها، أجابت: "لم أكن أتصور صعوبة الموقف. كل المواقف السابقة لم تمسني شخصيًا. بعد الحادثة، دخلت في حالة من الاكتئاب والصدمات النفسية. صورة الرجل المتحرش وهو ينزل من السيارة بكل فخر لم تذهب من بالي." بدأت أصدقائي المقربون يبحثون عن حل لي، حتى تواصلوا مع طبيب نفسي متخصص.


ذكرت مليكة أن الطبيب قدم لها إجراءات نفسية ساعدتها كثيرًا. ومن خلال اتباع الخطوات العلاجية المناسبة، تمكنت من تأكيد حقيقة الحادثة والتعامل مع تداعياتها. ركزت على تقبل ما جرى كواقع أو حادثة يجب التعامل معها من خلال العلاج النفسي والدعم المتخصص. اعتمدت على الأمثلة الإيجابية لنساء تعرضن لتجارب مشابهة واستطعن التعافي، حتى لو بشكل جزئي، وعادوا إلى حياتهن الطبيعية.


في البداية، كانت هناك مشاعر شديدة من الألم النفسي، ومع مرور الوقت، ومع الالتزام بالجلسات العلاجية، بدأ هذا الألم يقل تدريجيًا. كما حرصت على تجنب التفكير في عوامل قد تزيد من الشعور بالذنب أو تعيق عملية التعافي، مثل لوم النفس أو التركيز على ظروف الحادثة.


قالت مليكة في النهاية: "استفدت كثيرًا من الدعم النفسي، والآن تعافيت تمامًا، وتعلمت كيفية التعامل مع هذه المواقف. التحرش جريمة قادرة على إنهاء حياة شخص إذا لم يتعافَ نفسيًا بعدها."


 من التفوق الدراسي إلى خطر الرسوب


مريم (اسم مستعار)، طالبة في الصف الثالث الإعدادي. كنت طالبة متفوقة، ونجحت في الفصل الدراسي الأول بتقدير عالٍ، لكن ما حدث لي في الترم الثاني كان على وشك أن يضيع مستقبلي الدراسي.


كنت أحضر دروسًا في مركز تعليمي، وكان هناك رجل مسؤول عن الحسابات. لاحظت في البداية نظراته الغريبة، لكنها لم تلفت انتباهي كثيرًا، فكرت أنني في سن أبنائه، لكن مع الوقت، ازدادت نظراته ذات الطابع الجنسي.


في أحد الأيام، دخل هذا الرجل أثناء الحصة بحجة إنهاء بعض الحسابات بعد انتهاء الدرس. طلب مني البقاء لشرحه بعض الأمور، وفجأة أمسك بيدي بحجة أنها تشبه يد ابنته. بعدها اقترب أكثر وأصبح يلامس جسدي. شعرت بالذعر وهربت مسرعة.


بدأت حالتي النفسية تتدهور، توقفت عن الذهاب إلى الدروس في المركز، ولم أخبر أحدًا بما حدث، خوفًا من المشاكل. قرب الامتحانات، لم أستطع التركيز أو المذاكرة بسبب التفكير المستمر في الحادثة. شعرت بالخطر على مستقبلي الدراسي، فطلبت المساعدة من صديقتي المقربة.


اقترحت علي صديقتي التواصل مع قريبتها التي تدرس علم النفس. كانت بداية رحلة تعافي طويلة…


أهمية الدعم في رحلة الناجيات نحو التعافي


صرحت سهيلة عامر، مسؤولة دعم نفسي وإدارة حالة، قائلة: "تعاني الناجيات من التحرش، سواء كان جسديًا أو لفظيًا، من آثار نفسية عميقة تترك بصمتها على حياتهن. وتبدأ هذه الآثار بالتجنب الاجتماعي والعزلة، حيث تجد الناجيات صعوبة في التفاعل مع المجتمع مجددًا، وغالبًا ما يخشين مغادرة المنزل أو التحدث عن تجربتهن خوفًا من عدم التصديق أو اللوم. يتفاقم ذلك بشعور دائم بالتوتر والقلق المستمر، إذ تعيش العديد منهن في حالة خوف دائم من التعرض لمواقف مشابهة في المستقبل، مما يسبب ضغطًا نفسيًا متواصلًا.


من الآثار الأخرى التي تواجهها الناجيات مشاكل النوم، إذ يعانين من كوابيس وأرق يمنعهن من الحصول على نوم طبيعي، وفي بعض الحالات يلجأن إلى الأدوية لتخفيف هذه الأعراض. في الحالات الشديدة، يمكن أن يتطور الأمر إلى اضطراب ما بعد الصدمة، حيث تخشى الناجيات الأماكن أو المواقف المرتبطة بالحادثة، مما يزيد من صعوبة تجاوز التجربة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني العديد من الناجيات من مشاعر مثل الذنب والعار، إذ يحملن أنفسهن مسؤولية ما حدث دون أي مبرر منطقي، مما يمنعهن من طلب الدعم النفسي أو الحديث عن معاناتهن.


إلى جانب ذلك، يعاني كثير منهن من شعور بالضعف والعجز، إذ يشعرن أنهن لم يكن قادرات على حماية أنفسهن، مما يؤدي إلى جلد الذات وفقدان الثقة بالنفس. ولا يقتصر الألم النفسي على الداخل فقط، بل يمتد إلى تأثير الصور النمطية والمجتمع، الذي غالبًا ما يحمل الضحية مسؤولية ما حدث أو ينظر إليها نظرة لوم، مما يزيد من شعورها بالخزي ويؤثر على تقديرها لذاتها.


وأضافت سهيلة، مسؤولة دعم نفسي: "رغم كل هذه التحديات، يمكن للناجيات تجاوز هذه الآثار النفسية من خلال البحث عن الدعم، سواء من الأصدقاء أو العائلة أو المتخصصين النفسيين، وتقبل التجربة كجريمة ارتُكبت ضدهن وليس كخطأ يتحملن مسؤوليته. التحدث عن التجربة لشخص مقرب أو معالج نفسي قد يساعد في تخفيف العبء النفسي وإعادة بناء الثقة بالنفس.


ومن الضروري أن توفر البيئة المحيطة، سواء من العائلة أو الأصدقاء، الدعم النفسي اللازم من خلال الإنصات بعطف، وتقديم كلمات مشجعة، وتعزيز شعور الناجية بالأمان، مع احترام خصوصيتها وعدم الضغط عليها لسرد تفاصيل التجربة.


كذلك، يمكن التخفيف من التأثيرات طويلة الأمد عبر توعية الناجيات بحقوقهن القانونية، وحمايتهن من البيئات المؤذية التي قد تزيد من معاناتهن، بالإضافة إلى بناء شبكة دعم قوية تساعدهن في استعادة التوازن النفسي. تعافي الناجيات من التحرش قد يكون رحلة طويلة، لكنها ممكنة بدعم مستمر وتغيير مجتمعي."


كما ذكرنا فيما سبق، فإن التحرش ليس مجرد فعل عابر يمكن التغاضي عنه أو التهاون في مواجهته؛ إنه اعتداء على حق النساء في الأمان والاحترام. الصمت عن التحرش يغذي دائرة العنف ويزيد من تمادي المعتدين، ويُعتبر أيضًا تواطؤًا ضمنيًا مع ثقافة تسمح باستمراره.


التحرش، بغض النظر عن شكله، من المهم أن ندرك أن كل موقف تحرش، مهما بدا صغيرًا للبعض، هو في الواقع فعل كبير يمكن أن يترك أثرًا نفسيًا عميقًا وندوبًا قد تؤثر على حياة الناجيات بطرق لا يراها المجتمع بسهولة. تجاهل هذه الآثار يعني التهاون في حقوق الناجيات، وهو أمر لا يمكن التسامح معه.


التصدي للتحرش يبدأ من رفض الاستهانة به على جميع المستويات. من المهم أن ندرك أن الوقوف بجانب الناجيات ليس خيارًا، والدعم النفسي والاجتماعي ليس رفاهية، بل هو ضرورة لمساعدتهن على استعادة قوتهن وثقتهن بأنفسهن. ومن الضروري مساعدة الناجيات في تطبيق القانون للتصدي لجريمة التحرش، وهي خطوة حيوية لتحقيق العدالة وردع المعتدين.


الدعم القانوني يبدأ بتشجيع الناجيات على الإبلاغ عن الجريمة دون خوف من اللوم أو الوصم.

مقالات اخري

article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
الابتزاز الالكتروني : عنف رقمى يهدد حياة النساء من وراء الشاشة
في عصر التكنولوجيا المتقدمة و وسائل التواصل الاجتماعي، يُعدّ الابتزاز الإلكتروني أحد أخطر التحديات والجرائم التي تواجه النساء والفتيات يتمثل هذا الابتزاز في تهديد حياة النساء بنشر معلومات حساسة أو صور أو مقاطع فيديو شخصية، في حال لم تخضع الناجية \ الضحية لتهديدات المعتدى، وغالبًا ما تكون هذه التهديدات بغرض الابتزاز للحصول على مكاسب مادية […]
قرائة المزيد
article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
المقال الختامي لحملة ” أجسادنا…. قراراتنا “
مع انتهاء حملة “أجسادنا قراراتنا” التي أطلقناها ضمن فعاليات حملة الـ16 يومًا لمناهضة العنف القائم ضد النساء، والتي امتدت من 25 نوفمبر حتى 10 ديسمبر، سعينا من خلال حملتنا إلى إعلاء صوت النساء في المطالبة بحقوقهن الجنسية والإنجابية باعتبارها حقًا أساسيًا للنساء، وكركيزة جوهرية لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، والتأكيد على أن هذه الحقوق […]
قرائة المزيد