لا تبدأ كل الأحلام بصوت عالٍ؛ أحيانًا تبدأ بخطوة خجولة، وركلة خفيفة في ساحة ترابية، ونظرة خاطفة نحو المدرّب الذي لا يراهن.
في أسوان، تحاول فتيات صغيرات أن يجدن لأنفسهن مكانًا في لعبة كرة القدم، رغم شعبيتها الطاغية، تبقى ساحة مغلقة أمام البنات ليس فقط بسبب غياب الفرص، بل لأن المجتمع قرر مسبقًا أن هذه اللعبة لا تناسب "أنوثتهن".
تتذكر "هالة"، طفولتها وهي في العمر 13 عام ، تجري خلف كرةٍ تتهرب من نظرات الصبيان، وتحاول، ولو للحظة، أن تشبه لاعبًا محترفًا رأته مرة على التلفاز. لم تتعلم في مدرسة أو أكاديمية، بل في المساحات التي لم تُصادر بعد. لكن هذه المساحة تضيق عامًا بعد عام، واختارت أن تدرس في كلية العلوم ورفضت ان تلتحق في كلية تربية رياضية، فليس هناك فرق للفتيات في قسم كرة القدم، و في مراكز الشباب لا يوجد دعم جاد، في الشوارع، لا يُشجّع اللعب، بل يُراقَب ويُحاكم.
تقول هالة محمود "كنت أجي هنا من وأنا صغيرة "عند بيت جدتي" ، ألعب مع أخويا في الأول كانوا بيقولولي: دي لعب صبيان بس كنت بلعب غصب عن الكل دلوقتي كبرت... وبقيت حاسة إن الوقت بيفلت، وإن اللعب مش مسموح بعد سن معين خاصة ان اهلي طبعهم صعب شوية "
ليست المشكلة في القدرة أو الموهبة، فالبنات في أسوان — كما في كل مكان — يستطعن الجري، المراوغة، والتسديد، والتألق.
المشكلة في أن الملعب مغلقٌ أمامهنّ، حتى وإن بدا مفتوحًا من بعيد. فالفرص في كرة القدم للبنات شبه منعدمة، لا في المدارس، ولا في الجامعات، ولا حتى في معظم مراكز الشباب.
توضح "دعاء"، خريجة كلية التربية الرياضية بجامعة أسوان: "مافيش قسم كرة القدم للبنات، ولو فيه بنت بتحب اللعبة، بتتعلمها في طفولتها أو مع ولاد الجيران لكن مفيش مسار واضح ليها لو عايزة تكمل بشكل احترافي. السباحة؟ مفتوحة للجميع. لكن الكورة؟ لأ، المجتمع بيحدد: دي لعبة ولاد"
في مجتمع لا يزال يحتفظ بالكثير من التقاليد المتعلقة بـ"أدوار النوع"، تصبح كرة القدم رمزًا للصراع. البنات اللواتي يحلمن باللعب، يواجهن أحكامًا قاسية. "مفيش بنات بتلعب كورة بعد سن معين"، "إنتِ كده بتقللي من أنوثتك"، "دي لعبة خشنة"... تلك العبارات تتردد على مسامع كل فتاة تُمسك بكرة في يدها.
تعبر رحاب احمد ، البالغة من العمر 21 عامًا عن حلمها في احتراف كرة القدم،الذي ضاع تحت هيمنة تلك القيود : "كبرت، ومابقيتش اقدر العب زي زمان حتى لو لقيت مكان، مش هلاقي فريق الناس بتبصلى باستغراب فيه شعور دائم إن اللعب ده مش لينا، مع إنه من حقنا زينا زي الولاد."
في مراكز الشباب، قلة قليلة من المدربين يمنحن للبنات فرصة حقيقية لتعلم كرة القدم. ليس لأنهن غير مؤهلات، بل لأن النظرة السائدة لا تزال ترى أن البنت تلعب فقط للمرح وقضاء وقت فراغ، لا للمنافسة أو الاحتراف.
تقول "أميرة محمد "،: "انا كنت بلعب كرة وانا صغيرة وبعدها توقفت بسبب عدم اهتمام المدربين بينا وكمان مش كل الأهالي تسمح لبناتها تلعب كورة و بيفضلوا انها تختار العاب ثانية ولذلك كان عددنا قليل و لو سألت أي مدرب هنا، هتلاقي إن الاغلبية منهم مش بيهتموا بالبنت اللي عايزة تتعلم كورة مش بيشوفوها لاعبة بيشوفوها متفرجة ده غير الدعم، المعدات، حتى الوقت في الملعب، كله بيروح للاولاد "
لم يكن اللعب هو المشكلة الوحيدة، فالركض ذاته، بما يستلزمه من زي رياضي، كان وما زال موضعَ شك ورفض واتهام في أسوان. يصبح "الشورت" أو التيشيرت الرياضي خرقًا للصورة النمطية لـ"الفتاة المهذبة" من وجهة نظر المجتمع والتى فرضها ككتالوج لا يحيدن عنه الفتيات في مجتمعنا.
تقول "منى"، الفتاة في السابعة عشرة، التى تحب لعب الكرة ولكنها توقفت منذ عام: "كل ما ألبس تيشرت رياضي وأروح المركز، أحس إني داخلة أواجه الناس، مش أتمرن حتى وأنا لابسة محتشمة، بيبصوا عشان بجري، وبتحرك، وده في نظرهم 'عيب' ".
في نظر كثير من المحيطين، خاصة المجتمعات التي تدعي أنها محافظة، يُعتبر جسد الفتاة عورة متحركة لا يُسمح له بالركض أو القفز، ولا حتى الظهور بثياب مخصصة للرياضة.
تضيف منى "حتى وأنا بتدرب، ببقى مركزة إن التيشيرت ميترفعش، والبنطلون ميبقاش ضيق، أكتر ما ببقى مركزة في الكورة!"
المجتمع لا يهاجم المهارة، بل الجسد ذاته، بكل تفاصيله. ولكن ربما يأتي يومٌ تُفتح فيه أبواب الملاعب لهنّ، لا لأنهنَّ "استحقَّين" بعد تعب، بل لأن حق اللعب وممارسة الرياضة حقٌ للجميع منذ البداية.