احنا هنا

٢٤ يوليو ٢٠٢٥

معاناة صامتة: ضغط مجتمعي على الصحفيات في مصر والتأثير النفسي واقع عليهن

قامت بكتبتها / بسملة إيهاب

وسط تصاعد الأزمة الاقتصادية في مصر، وتفاقم التحديات الاجتماعية والمهنية، تواجه الصحفيات المصريات واقعًا قاسيًا يتقاطع فيه التهميش مع العنف الممنهج بأشكاله،ما يؤدي إلى أزمات نفسية حادة واحتراق مهني مبكر. هذه الأزمة، غير المرئية في الخطاب العام، لا تتعلق فقط بالأجور أو الترقيات، لا تقتصر على الأجور أو الترقيات، بل تمتد إلى ما هو أعمق: الصحة النفسية والكرامة الإنسانية في بيئة عمل غير آمنة.



بطالة مقنّعة وتمييز مؤسسي


وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغت نسبة البطالة بين النساء في مصر 37.1% عام 2024، مقارنة بـ 9.8% بين الرجال. و في قطاع الإعلام، تُظهر الأرقام غيابًا صارخًا للنساء في المواقع التحريرية والقيادية، فضلًا عن تجارب متكررة من التهميش الوظيفي، والتشكيك في الكفاءة بناءً على النوع الاجتماعى، ومحدودية الفرص مقارنةً بالزملاء الذكور.


في ظل هذا المناخ، تتحول بيئة العمل الصحفي بالنسبة للنساء إلى حقل ألغام نفسي واجتماعي، يبدأ بتوقعات أسرية تقليدية، ويمتد إلى معايير مؤسسية غير مرنة، وغياب للدعم النفسي والمهني، وصولًا إلى التعرض المستمر للعنف اللفظي والجسدي والتحرش، وكل ذلك يحدث دون بنية حماية مؤسسية حقيقية.



الاحتراق النفسي عنف غير مرئي


الاحتراق النفسي هو حالة من الإرهاق الجسدي والعاطفي والعقلي الناتجة عن الضغوط المستمرة والمكثفة، خاصة في بيئات العمل أو الحياة اليومية المليئة بالتحديات. تُعتبر تلك مشكلة في تزايد مستمر في العصر الحديث، حيث يواجه الأفراد مستويات غير مسبوقة من التوتر والضغط النفسي، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على حياتهم النفسية والجسدية والاجتماعية



و الاحتراق النفسي لدى الصحفيات  لا يحدث فجأة، بل يتسلل ببطء، عبر مهام مرهقة دون اعتراف وتقدير، قواعد غير مكتوبة تحابي الذكور، وتوقعات اجتماعية تضع النساء في صراع دائم بين العمل والأسرة


و في ظل هذا التواطؤ المؤسسي والمجتمعى على إسكات الألم، يصبح الصمت وسيلة الدفاع الوحيدة، وتتحول الصحفيات إلى ما يشبه "المقاتلات المنعزلات"، يقدمن جودة مهنية عالية، بينما يتآكلن داخليًا.



غياب الحماية المؤسسية للصحفييات


تفتقر غالبية المؤسسات الإعلامية في مصر إلى سياسات داخلية واضحة لحماية الصحة النفسية للعاملين والعاملات، فضلًا عن غياب آليات للإبلاغ عن العنف والتحرش الجنسي، وندرة فرص التدريب على السلامة النفسية بل في بعض الأحيان، يُنظر إلى الصحفية التي تطلب دعمًا نفسيًا كـ"شخص غير قادر على تحمّل ضغوط المهنة" و "ضعيفة"، مما يدفع كثيرات إلى كتمان معاناتهن.


ورغم بعض المبادرات الفردية أو المستقلة التي تسعى لتوفير مساحات دعم نفسي أو جلسات توعية، إلا أن تأثيرها لا يزال محدودًا في ظل غياب الإرادة المؤسسية والسياسية لمعالجة جذور المشكلة.



الوصم المجتمعي: عنف مزدوج علي الصحفيات 


لا تنحصر الضغوط التي تواجهها الصحفيات داخل حدود المؤسسات الإعلامية فقط، بل تمتد إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع، حيث لا تزال تُعامَل المرأة العاملة في الصحافة، خاصة من تغطين قضايا النوع الاجتماعي وقضايا النساء والعنف القائم ضدهن ، باعتبارها "استثناءً" أو "امرأة تتجاوز الخطوط الحمراء" أو "مثيرات للجدل" لمجرد طرحهن قضايا مثل العنف الأسري أو الحقوق الإنجابية.  هذا التوصيف المجتمعي يُنتج وصمًا مستمرًا يلاحق الصحفيات ليس فقط بسبب اختيارهن المهني، بل أيضًا لطبيعة الموضوعات التي يشتبكن معها.


فالصحفية التي تكتب عن العنف الأسري، أو تدافع عن الحقوق الإنجابية، أو تكشف أوجه التمييز في قوانين العمل والميراث، توضع في مواجهة مباشرة مع ثقافة -تري نفسها أنه محافظة- ترى في هذه القضايا تهديدًا للنظام القائم ويتم إلصاقها بعبارات مثل "مثيرة للجدل" لمجرد طرحها تلك القضايا


ومن التنمر بسبب رغبتها في اختيار التوقيت المناسب لها للزواج أو عدمه، إلى تساؤلات متكررة من نوع "كيف تسافر وحدها؟" أو "لماذا تكتب عن موضوعات؟"، تتعرض هؤلاء الصحفيات لضغوط نفسية مزدوجة، تجعل كل قرار مهني محفوفًا بكلفة اجتماعية باهظة.


وبين الأحكام المسبقة والتوقعات النمطية، تجد كثيرات أنفسهن محاصرات في دائرة من الرقابة المجتمعية،  تُجبر الصحفيات على تبرير اختياراتهن المهنية ، بل أحيانًا الدفاع عن قناعاتهن الشخصية، في بيئة لا ترحم الخروج عن المألوف.



نحو بيئة عمل صحفية عادلة وآمنة


ما تحتاجه الصحفيات فعلياً يتجاوز شعارات "التمكين" التقليدية والتمثيل الرمزي ، بل خطوات وإصلاحات مؤسسية ومجتمعية تشمل إدماج خدمات الدعم النفسي ضمن سياسات المؤسسات الإعلامية، و توفير متخصصين للتعامل مع حالات الاحتراق النفسي والوظيفي والضغوط وكذلك تدريب المديرين/ات والعاملين والعاملات على التعامل مع الضغوط النفسية والتوعية ومناهضة التحرش والعنف القائم على النوع   وتحويل الثقافة التنظيمية من التهميش إلى الدعم.


ووضع لوائح مؤسسية صارمة وملزمة لمحاسبة المتحرشين والمعتدين، مع ضمان سرية وحماية الناجيات و المُبلِّغات..
كما أن وجود وحدات للنوع الاجتماعي داخل المؤسسات،  لرصد الانتهاكات وجعل المؤسسة الاعلامية محققة لتوازن النوع الاجتماعي و مستجيبة لاحتياجات الصحفييات، وتبني سياسات تحريرية حساسة للنوع، يمثلان خطوة أولى نحو كسر هذا الصمت الجماعي حول الصحة النفسية للصحفيات.


في لحظة يتراجع فيها الإعلام المصري، و تتآكل فيها ثقة الجمهور، لا يمكن لمؤسسة أن تستمر وهي تنهك أهم مواردها البشرية "الصحفيات الشابات الملتزمات المهنيات" إذا كان المجتمع يعتبر الصحفية "استثناءً" في مهنة مليئة بالتحديات، فإن الأجدى أن يكون الاستثناء في دعمها لا في عزلها


إن سلامة الصحفيات النفسية ليست قضية شخصية أو هامشية، بل شأن عام ومؤشر علي جودة الإعلام وحرية التعبير، معيار لعدالة المجتمع، لأن ظروف العمل غير الآمنة تعكس تمييزًا ضد النساء.

مقالات اخري

article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
ملاذ بلا عدالة” هل يتجاهل القانون المصري جرائم العنف الجنسي ضد الناجيات السودانيات”
فرضت حرب 15 أبريل 2023  بالخرطوم واقعاً امنياً مختلفاً للنساء السودانيات وجدت آلاف النساء السودانيات أنفسهن مضطرات لعبور الحدود نحو مصر، حاملات معهن ذاكرة الحرب و واقعًا جديدًا لا يقل قسوة عن  الواقع الذي هربن منه،  فمخاطر  العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي لا تعرف الحدود فتلاحقهن حتى في المنفى  بينما تعيق الحواجز الاجتماعية والقانونية […]
قرائة المزيد
article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
كيف زاردت الولادة القيصرية بهذا القدر ؟
أسباب ارتفاع نسب الولادات القيصرية: بين الطب والمجتمع والتجربة الشخصية اتت الولادات القيصرية كحل طبي للولادات المتعسرة أو الحرجة ولكن سرعان ما تبدل الحال في السنوات الأخيرة  بازدياد مبالغ فيه للولادات القيصرية مقابل الطبيعية بشكل لافت في كثير من دول العالم، ولا سيما في العالم العربي وحظيت مصر بأعلى نسب الولادات القيصرية حيث وصلت الى  […]
قرائة المزيد