نعلم جميعًا أن للإعلام، وخاصة الصحافة، قوة هائلة في تشكيل طريقة تفكير المجتمع ، لكن هذه
القوة يمكن أن تُستخدم بصورة خطيرة حين تتحول إلى وسيلة لصناعة الكراهية وتعزيز التمييز. يقدم هذا التقرير تحليلًا عميقًا لآليات هذه الصناعة، ويركز على تأثير اللغة والعناوين الصحفية في جعل التمييز ضد النساء يبدو أمرًا طبيعيًا ومقبولًا يهدف هذا التقرير إلى توضيح كيف تتحول الكلمات والجمل والصياغات الصحفية خاصة في العناوين إلى أدوات تعيد إنتاج الصور النمطية وتبرير التمييز المنهجي وتعزيز خطاب الكراهية، وصولًا إلى تجريد المرأة من إنسانيتها وحصرها داخل قوالب اجتماعية ضيقة. وبدل أن يكون الإعلام فضاءً للتنوير، يصبح أداة لإعادة إنتاج الهيمنة والتفاوتات، مما يساهم في خلق بيئة إعلامية معادية تزيد من انقسام المجتمع بدل أن توحده ولتحقيق هذا الهدف، كان من الضروري طرح مجموعة من الأسئلة المهمة التي تجيب عنها الأستاذة شيماء دهب، رئيس قسم المرأة بجريدة الدستور وعضو المجلس التنفيذي في مؤسسة مؤنث سالم.
المصطلحات الصحفية المنحازة: كيف تُوصَف المرأة وكيف يُوصَف الرجل؟
غالبًا ما تُرفَق المرأة في التغطيات الصحفية بأوصاف تُركّز على المظهر أو الطبقة أو علاقتها برجل، مثل:
"فتاة المول" – "الحسناء" – "زوجة فلان".
في المقابل، تُستخدم للرجال مصطلحات مهنية ومحايدة مثل:
"المواطن" – "الشاب" – "المسؤول".
هذا التباين يعكس تحيّزًا لغويًا يربط قضايا النساء بالعاطفة والنمطية، ويمنح الرجال مساحة أكبر للظهور كذوات مستقلة.
كيف تُحوِّل الصحافة الضحية إلى جانية؟
يحدث ذلك حين يتحول التركيز من الجريمة إلى سلوك الضحية، عبر أسئلة مثل:
"إيه اللي وداهم هناك؟" – "كانوا لابسين إيه؟" – "بينزلوا ليه في الوقت ده؟"
هذه الأسئلة تُحوّل الجريمة من فعل اعتداء إلى فعل "مُبرَّر"، وتعزز لوم الضحية، وتزيد شعور النساء بالذنب، وتفتح الباب للتعاطف مع الجاني، مما يجعل الانتهاك وكأنّه "مستحق".
الأدوار النمطية في التغطيات الصحفية
تركّز الصحافة غالبًا على المرأة ك ـزوجة – أم – عاطفية – ضعيفة – تابعة، بينما تغيب الصور التي تظهرها كصاحبة قرار أو فاعلة مستقلة في المجتمع.
هذا النوع من التناول يعيد إنتاج التراتبية الجندرية في الإعلام.
أهمية اللغة المحايدة والخالية من التحيّز
اللغة المحايدة ليست ترفًا مهنيًا، بل ضرورة أخلاقية تحافظ على كرامة المرأة، وتمنع تشويه الوقائع، وتضمن عدم تحويل الضحية إلى جانية. إنها جوهر المهنية، وشرط أساسي لتعزيز المساواة في الخطاب الإعلامي.
العناوين المثيرة: تضخيم، تشويه، ووصم
في عصر السوشيال ميديا أصبحت العناوين المثيرة رأس مال الصحف، مما يدفعها للتركيز على التفاصيل الخاصة بحياة النساء لإثارة الانتباه ولو على حساب الحقيقة.
هذا الأسلوب يشوّه الوقائع، ويعمّق الوصم الاجتماعي، ويجذب الجمهور عبر إثارة الفضول بدل تقديم معلومة دقيقة.
6. لماذا تتعرض النساء للتشهير أكثر من الرجال؟
عند مقارنة التغطيات، نجد أن الجرائم التي ترتكبها النساء غالبًا ما تُقدَّم بلغة حادة ووصمة، بينما تُغطَّى جرائم الرجال بلغة محايدة، وكأن الأمر "روتيني".
في حالة النساء، تبحث الصحافة في حياتهن الخاصة وتستخدم مفردات تُدينهن حتى قبل الحكم القضائي.
العناوين الغامضة والتعميمات السلبية: صناعة التمييز الطبقي والعرقي
عناوين من نوع:
"سيدة من منطقة شعبية..." – "طالبة من حي..."
تُسهم في ربط السلوك بالخلفية الاجتماعية أو الجغرافية أو الطبقية، مما يعزز الأحكام المسبقة ويفتح الباب للتمييز المركّب ضد النساء.
نموذج واقعي: "الزوجة اللعوب"
نشرت إحدى الصحف الكبرى مؤخرًا عنوانًا عن جريمة قتل جاء فيه: "الزوجة اللعوب".
هذا العنوان كان مثالًا صارخًا للعنف اللغوي، حيث تجاوز المعلومة إلى التشهير، وكرّس صورة نمطية خطيرة، قبل أن يضطر رئيس التحرير للاعتذار وحذف الخبر.
هذه الواقعة تكشف أن التحيز اللغوي أصبح مألوفًا لدرجة أن كثيرين لم يروا في العنوان خطأ، وهو ما يدل على ترسخ السلوك داخل المؤسسات الإعلامية نفسها
آليات مساءلة المحتوى الإعلامي المحرّض على الكراهية
يمكن مساءلة الصحف عبر:
تقديم شكاوى إلى المجلس الأعلى للإعلام
حملات المقاطعة والضغط العام
رفع دعاوى التشهير والتحريض
استخدام الإعلام الرقمي للضغط على المؤسسات
المبادرات الإعلامية البديلة
هناك مبادرات تُقدّم نماذج مهنية عادلة، مثل مؤسسة "أنا" التي تعمل على تعزيز الكتابة الجندرية العادلة من خلال إنتاج المحتوى وتنظيم ورش العمل. هذه المبادرات تقدم بديلاً واعيًا ومسؤولًا.
الحلول والسياسات التحريرية المقترحة
وضع سياسات تحريرية واضحة تمنع التشهير وتضبط لغة الحوادث
تعيين مُصحّح جندري لمراجعة الأخبار قبل نشرها
الامتناع عن نشر تفاصيل شخصية عن النساء في قضايا العنف
اعتماد دليل لغوي يضمن الكتابة المحايدة
تدريب الصحفيين على الكتابة الجندرية وأدوات تحليل الخطاب
هذه الحلول تضمن مهنية التغطية وتحمي كرامة النساء والرجال معًا.
خاتمة
إن مقاومة اللغة المنحازة ليست دفاعًا عن النساء فحسب، بل عن جوهر الصحافة نفسها: الحقيقة، النزاهة، والعدالة.
وحين تصبح الصحافة أكثر وعيًا بلغتها، يصبح المجتمع أكثر قدرة على رؤية المرأة كإنسانة كاملة، لا كصورة نمطية متداولة