لم تكن مروة (اسم مستعار) - الفتاة الأسوانية ذات ال 22 ربيعاً - تعلم أن شغفها بتنس الطاولة سيتحول إلى مجرد ذكرى مؤلمة انتهت مبكراً قبل أن تكتمل بدأت مروة رحلتها في الثامنة من عمرها بمحض الصدفة، عندما رافقت والدها - صديق رئيس مجلس إدارة أحد أندية أسوان - واكتشفت موهبتها الفذة وبينما كانت تجري وراء حلمها بكل براءة الطفولة، كانت قيود المجتمع تحيك حولها خيوط النهاية.
مروة (اسم مستعار)، تنتمي لعائلة متيسرة الحال، عاشت طفولتها بين أب وأم وأخ صغير، وسط بيئة مشجعة نسبيًا، انجذبت للعبة بشكل لافت، ومع تشجيع والدها، بدأت تشارك وتحقق بطولات محلية وهي في عمر صغير.
لكن الأمور لم تسر كما أرادت مع سفر والدها للعمل خارج مصر، انقطع دعم العائلة ومع ذلك، أصرت مروة، بمساعدة عمتها، على الاستمرار، وبدأت تحصد الميداليات وتشارك في بطولات داخل وخارج أسوان. لكن عند بلوغها سن الخامسة عشرة، تغيّرت الأمور، منعها والدها من السفر خارج المدينة، معتقدًا أن سفر الفتيات "لا يليق"، خاصة في غيابه.
"كان القرار بمثابة الضربة الأولى لحلمي"، تقول مروة بحسرة. "الضربة الثانية جاءت عندما فقدت أعز داعم لي... عمتي."
في عمر الثامنة عشرة، توفيت العمة بعد أزمة صحية، وعادت مروة تحت وصاية والدها الذي أجبرها على ترك أسوان والرياضة معًا. "قال لي ساخرًا إنه ممكن يقدم لي في نادي جديد... لكنه لم يفعل شيئًا"، بهذه العبارة تلخص مروة مأساتها التي اضطرت قسراً أن تتخلي عن رياضتها المفضلة وتبتعد عن ممارسة تنس الطاولة نهائيًا، تاركة حلمها مع ذكريات الطفولة.
قصة مشابهة عاشتها منى (اسم مستعار)، الفتاة القادمة من إحدى القرى بمحافظة أسوان، والتي اختارت كرة السلة طريقًا لحلمها.
في عمر الثانية عشرة، بدأت منى مرافقة صديقتها إلى أحد الأندية لم تلبث أن عشقت اللعبة، حتى أقنعت والدها بالموافقة بعد محاولات شاقة. في البداية، ساعدها صغر سنها وجسدها الطفولي على تخفيف القيود. لكنها مع بلوغها سن الخامسة عشرة، بدأت تواجه معركة جديدة.
"كان والدي يتعامل مع تغيرات جسدي كأنها عارٌ يجب إخفاؤه"، تروي منى "منعني من ارتداء زي كرة السلة رغم أن التدريبات كلها كانت في أماكن مغلقة ومخصصة للفتيات فقط"
ومع تزايد الضغوط والنظرات المراقبة من أبناء الحي وحتى الأقارب، اضطرت منى للتخلي عن حلمها في عمر السابعة عشرة، رغم مشاركتها في بطولات وميداليات واعدة.
"كنت أدعو على نفسي أن أصاب بمرض السل حتى ينحف جسدي فأستطيع مواصلة رياضتي"، تعترف منى بمرارة لكنها اليوم أكثر وعيًا، تدرك أن جسدها لم يكن المشكلة أبدًا، بل كانت التقاليد المغلوطة التي فرضت عليها أحكامًا جائرة.
قصتا مروة ومنى ليستا سوى نموذجين من عشرات،بل مئات من الفتيات اللاتي خسرن مستقبلهن الرياضي تحت وطأة مفاهيم اجتماعية تقيّد حرية النساء و تقمع حقوقهن، هنّ بمثابة مرآة لواقع مرير تعيشه العديد من الفتيات، اللواتى علقن بين نار الشغف ورياح العادات العاتية.
في كل مرة كانت أحلامهن تلمع في الأفق، كانت قيود المجتمع تسحبهن إلى الخلف، حتى خسرن سنوات من العطاء والتألق، كان كفيلة بتغير مسار حياتهن. بل كان يمكن أن تصنع مروة المجد على طاولة التنس، وكان يمكن لمنى أن تعانق السلة وتحقق البطولات، ولكن بين النظرة الضيقة تجاه الفتاة الرياضية، والحظر المفروض على جسدها، ويعاقبها عليه. و بينما يُشجع الفتيان على النمو الجسدي و اكتساب قوة جسمانية تُعدعلامة علي الذكورة والقوة، تعاقب الفتيات على نفس التطور الطبيعي، ويتحملن عبء الخوف المبالغ فيه من "كلام الناس"، فكانت نهاية رحلتهن أن تذوب أحلامهن قبل أن تكتمل ملامحها.
لو كان أبطال هذه الحكايات من الذكور، لربما كانت النهاية مختلفة تماماً؛ إذ كانت أسماءهم ستتصدر الملاعب، وتطلق الألقاب، وتحقق الشهرة. أما في ظل القوانين والأحكام التى يفرضها المجتمع، تدفع الفتيات وحدهن الثمن الأكبر.
وتعليقًا على هذا السياق، تقول كابتن ه . ع، مدربة سابقة بأحد مراكز الشباب، بشكل تطوعي "ما تواجهه الفتيات في الصعيد ليس نقصًا في المواهب، بل نقصاً في الدعم والاستمرارية… كثير من اللاعبات كنَّ مرشحات لمستويات عالية جدًا، لكن الخوف من 'كلام الناس'، والتحكم في خيارات الفتاة، دمّر أحلامًا كثيرة. هناك مواهب كثيرة، وثقتها بنفسها انكسرت"
وتضيف "كمدربة، أكثر ما يؤلمني هو رؤية لاعبة تبكي لأنها لا تستطيع السفر مع الفريق،هذه ليست مشكلة رياضية فحسب، بل مشكلة مجتمعية، ويجب معالجتها من خلال توعية الأهل وترسيخ أهمية الرياضة وحق الفتيات في ممارسة الألعاب المختلفة "
إن التغيير الحقيقي يبدأ من كسر الموروثات المغلوطة التي لم تعد تناسب طموحات الأجيال الجديدة. يبدأ حين ندرك أن للفتاة الحق الكامل في أن تحلم، و تمارس الرياضة، و تحقق ذاتها بعيدًا عن قيود لا سند لها سوى الخوف و الأحكام الاجتماعية التي تفرض كبتها.
قد يبدو الطريق طويلًا وشاقًا، لكن مع نضال النساء والفتيات وكل خطوة تأخذ لكسر تلك التصورات، ومع كل أب وأم يختاران دعم ابنتهما بدلًا من كبتها، يخطو المجتمع خطوة نحو التقدم والمساواة والعدل بين الجنسين.