تُعَدّ العادات والتقاليد المجتمعية من أبرز العناصر التى تُعبِّر عن الهوية الثقافية للأفراد داخل المجتمع. لكن عندما يتعلق الأمر بالملابس الرياضية، ولا سيما للفتيات، فإن الأمر يخضع للعديد من القيود والشروط التي تتماشى مع معايير الزي التى يفرضها المجتمع بشكل واضح، فيجدن الفتيات أنفسهن محاصرات بقائمة لا تنتهي من الشروط التى تحتم عليهن ارتداء أزياء معينة، بحيث لا تكون ملتصقة أو تُظهر تفاصيل الجسد، وإلا اعتُبرت هذه الملابس خرقًا للأعراف والتقاليد المجتمعية المجحفة.
عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" أشار إلي مفهوم "الهابيتوس"، الذي يُحلل الطريقة التي تؤثر بها العادات والتقاليد على التجارب الاجتماعية للأفراد، وعلى سلوكياتهم وتصوراتهم للعالم من حولهم. "فالهابيتوس" يُمثّل البنية الداخلية التي تتشكّل من خلال تراكم الخبرات والتجارب الاجتماعية عبر الزمن، لتصبح كالبوصلة التي توجه الفرد وتفاعلاته في مختلف المواقف. ومن هذا المنطلق، يتضح أن العادات والتقاليد المجتمعية تُشكّل التأثير الأساسي والحقيقي على بعض الممارسات والسلوكيات، وهو ما يدفع الكثير من الآباء إلى فرض قيود خاصة على بناتهن فيما يتعلق بالملابس وبعض الأنشطة.
تقول "ج. م" - عمرها 12 عاماً "كنت في عطلة منتصف العام وأردت الالتحاق بالنادي لممارسة السباحة، وعندما عرضت الأمر على والدي رفض بشدة، وقال لي إنني كبرت ولم أعد صغيرة، وتساءل كيف لي أن أسبح أمام المدربين مرتدية ملابس السباحة؟ وكان رفضه سبباً في حزني طوال العطلة، رغم أن أخي الأكبر مني يشارك في رياضة السباحة... ولا أعلم ما سبب الرفض، هل لكوني فتاة؟ أم لأنني كبرت؟ أم بسبب نوع الملابس؟"
يعبر موقف والد "ج.م" عن الوضع العام للنساء في المجتمع الذي يمارس تمييز مباشرا بين الذكور والإناث، وتجعل من الفتاة كائنًا مُقيَّدًا داخل إطار معين وضمن قيود صارمة بفرضها المجتمع، وخضع لها الكثير من الآباء.
أما "م. أ" - عمرها 19 عاماً، عندما سُئلت عن معرفتها برياضات مثل ألعاب القوى، الجمباز، رفع الأثقال، والباليه المائي: "شاهدت بعض الفيديوهات على الإنترنت والتلفاز، لكن هذا خارج مصر لأن تلك الملابس من المستحيل ارتداؤها في مصر!"
وهذا يوضح كيف يتم ترسيخ تلك الأطر والأفكار النمطية في عقول الفتيات بأن تلك الملابس الرياضية تُعد مخالفة للمجتمع فيشعرن بقلة الثقة بأنفسهن وبأجسادهن وأنهن عيبًا يجب تخبئته، ويشعرن أن ارتداءها في مصر أمر غير ممكن، على الرغم من وجود العديد من الأندية والأولمبياد التي تُقام داخل البلاد، وتُشرف عليها وزارة الشباب والرياضة.
أما "هبة محمد"، وهي أم لثلاث فتيات صغيرات، تحدثت عن انها سترفض بشدة ان تمارس بناتها العاب مثل الجمباز والباليه لان بناتي سيكونن محجبات بإذن الله، وملابس تلك الرياضات وحركاتها من المستحيل أن يوافق عليها والدهم، ولا حتى المجتمع نفسه، فنحن للأسف لا نملك ثقافة تسمح للفتاة بممارسة هذه الرياضات، خاصة عندما تبدأ علامات الأنوثة في الظهور."
ويُبرهن هذا الحديث على أن العادات والتقاليد تُؤثر بشكل كبير على أفكارنا و ممارساتنا واتجاهاتنا وتعاملاتنا. وللأسف، فإن هذه التقاليد تتوارث جيلاً بعد جيل، ولا يمكن مخالفتها أو تغييرها بسهولة، على الرغم من ملامح الانفتاح على العالم الخارجي وتغيير بعض المفاهيم.
فقد أصبح هناك اليوم قبول بمشاركة الفتيات المحجبات في الرياضة مع الحفاظ على حريتهن، لكن لا يمكن إنكار أن الفتاة لا تزال مقيدة بمعايير مجتمعية يصعب تجاوزها وتظل من التحديات الرئيسية ضرورة اعتراف المجتمع بحق الفتاة في ارتداء ما تشاء بحرية، دون أن تُقيّد بنظرات المجتمع المتعصبة.
معركة النساء والفتيات للتمتع بحقهن المشروع في ممارسة الرياضة بكل حرية وأمان ، هي معركة منظومة فكرية تُقيّدها باسم الحماية تارة، والحياء تارة أخرى.
التغيير يبدأ من البيت، لكنه لا يكتمل دون وعي مجتمعي شامل يُؤمن بأن حق الفتاة في الرياضة لا يقل عن حقها في التعليم والعمل، وتفكيك هذه القيود المجتمعية وإعادة التفكير في تصوراتنا حول اللباس، و دعم حرية الجسد هو دعم لحرية الفكر والانطلاق نحو تحقيق الذات وتعبير النساء والفتيات عن أنفسهن بكل ثقة وحرية.