تزويج الطفلات، أو ما يُعرف ويتداول مجتمعياً بالزواج المبكر، هو إحدى الجرائم التي لا تزال ترتكب في حق الفتيات الصغيرات في مجتمعنا و تُهدد صحتهن، حيث تصبح الفتاة مشروع زواج منذ ولادتها، وكأنها تذكرة عبور لعائلة أخرى يكبر الحلم لديها كما عند الجميع، لكنها لا تدرك أن هذا الحلم قد يتحول إلى قيد يغلّ حريتها ويقتل أحلامها في مهدها.
تزويج الطفلات ، تلك الجريمة التي باتت عادة تتوارثها الأجيال، و جريمة صامتة تسلبهن طفولتهن وتدمر مستقبلهن وعلى الرغم من تطور التشريعات والقوانين الدولية التي تهدف لحماية الأطفال، فإن هذه الممارسة ما زالت تُمارس بشكل واسع، متسببة في تداعيات كارثية على المستويات النفسية والاجتماعية والصحية للفتاة
ويعد تزويج الطفلات نتيجة لمزيج معقد من العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، إحدي الأسباب أنه يُعتبر وسيلة لتقليل الأعباء الاقتصادية على الأسرة أو لحماية "شرف" الفتاة كما يزعم البعض ومع ذلك، هذه الممارسات تُخفي وراءها واقعًا مريرًا مليئًا بالاستغلال والظلم للفتيات.
و يعتبر تزويج الطفلات انتهاكًا صريحًا للحقوق الدولية التي تحمي الأطفال من الاستغلال ووفقًا لإحصائية نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2023، بلغ عدد الفتيات اللاتي تقل أعمارهن عن 18 عامًا والمتزوجات بعقود زواج 236,558، وهو ما يعادل 24.61% من إجمالي عقود الزواج المسجلة وهذا الرقم يعكس العقود الموثقة فقط، بينما يبقى عدد الحالات غير الموثقة، مثل الزواج الغير موثق المعروف مجتمعيا باسم"زواج السنة" وغيره غير معروف بدقة ، إذ لا توجد نسبة واضحة وثابتة حول هذه الحالات
تحدثت هبة علي : "انا كنت في سن 16 لما تزوجت في البداية، كنت متخيلة إن الزواج هو فرح وفستان ابيض... لكن مع الوقت، اكتشفت إن الحياة مش زي ما كنت أتصورها في الأول كنت مبسوطة، لأنه كان فيه اهتمام من العريس وعائلتي لكن بعد فترة، بدأت أواجه صعوبة في التعامل مع مسؤوليات البيت والأطفال، وأنا مش جاهزة لهذا الكم من المسئوليات كنت أتمنى أستكمل دراستي وأحلم بمستقبل أفضل، لكن الزواج قطع لي كل الفرص حياتي بقيت محصورة في البيت، وأنا حسيت إني ضيعت طفولتي لما كبرت وفهمت الدنيا" .
تجد الكثير من الفتيات أنفسهن، دون سابق إنذار، في أدوار فرضت عليهن وعمرهن لا يتجاوز الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة كزوجة وأم .
يُجبرن على مواجهة مسؤوليات تفوق قدرتهن دون خبرة أو استعداد نفسي وجسدي في سن تحتاج فيه الطفلة إلى أن تكمل تعليمها، فتُحرم من المدرسة وتفقد فرصة بناء مستقبل مستقل. كل ذلك يتم تحت شعارات واهية مثل "السترة" و"الخوف على العرض"، بينما الحقيقة أن الأمر لا يتجاوز كونه رضوخاً لضغوط اجتماعية.
**الصحة الجسدية والنفسية**
يعرض الزواج في سن مبكرة الفتيات لمخاطر صحية خطيرة، مثل مضاعفات الحمل والولادة التي قد تؤدي إلى وفاة الأم أو الطفل. كما يسبب لهن ضغطًا نفسيًا هائلًا نتيجة المسؤوليات التي لا تتناسب مع أعمارهن، مما يجبر الفتيات على ترك المدرسة لممارسة أدوار الزوجة والأم. وهذا يقضي على فرصهن في الحصول على تعليم يتيح لهن تحسين حياتهن والمساهمة في مجتمعاتهن. بدلًا من أن يكون الزواج وسيلة للخروج من الفقر، يساهم تزويج الطفلات في استدامته. فالفتيات اللاتي يُحرمْن من التعليم والعمل غالباً ما ينتهي بهن الأمر في دائرة من الفقر والاستغلال، وهو ما يعرف ب "تأنيث الفقر".
تحدثت ه.أ: "كنت أرافق والدي إلى سوق الخضار حيث كان يعمل تاجرًا، وكان لصديقه ابن أكبر مني بـ 11 عامًا، كان دائمًا يمازحني، ولم أكن أفهم سبب تصرفاته في ذلك الوقت حتى جاء ليخطبني عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكان هو في الخامسة والعشرين. لم أكن موافقة على الزواج، لكن والدي قال لي: 'إذا لم تتزوجي ابن شريكنا، فلن تتزوجي أبدًا.' خفت من فكرة أن أظل عانسًا كما يقول المجتمع، فوافقت رغم أنني لم أكن أعي ما الذي أقدم عليه.
بعد عدة أشهر من زواجنا، اكتشفت أنه شخص سيء خلقياً. أخبرت والدي، فقال لي: 'هو رجل، يجب عليك الحفاظ على بيتك، ولا تتركيه مهما حدث.' شعرت بالحيرة، ولكنني عدت إلى منزل والدي. ثم اكتشفت أنني حامل، فشعرت أن حياتي قد تدمرت وأنني سأظل معه من أجل الطفل.
عشت معه لمدة أربع سنوات، ثم قررت زيارة أهلي رغم رفضه لذلك، ولكنني أصررت. في اليوم التالي، فوجئت أنه قد طلقني. أصبحت أماً ومطلقة وأنا في عمر الثمانية عشر. بعد ثلاث سنوات من الطلاق، أشعر أنني أدفع ثمن خطأ لم أرتكبه، ولا أفهم سبب الطلاق رغم أنني كنت أتحمل كل شيء معه."
قالت أمينة عبد العال: "تزوجت وأنا صغيرة في السن، وكنت سعيدة لأن الجميع كانوا يقولون لي إن الزواج سيجعل الحياة أفضل 'وبيخلي البنات تحلو.' لكن الحقيقة ليست سهلة كما توقعت، لأنني بدأت أعيش المسؤوليات، وبدأت أشعر أنني لست جاهزة لها، والخلافات تحتاج إلى منطق لحلها. هموم وصعوبات كبيرة، خاصة من ناحية الحمل والولادة، وكمان كان عندي مشاكل صحية بسبب الحمل في هذا السن، وأجهضت مرتين، وفعليًا حياتي أصبحت صعبة جدًا. وكان أهل زوجي دائمًا يلوموني أنني 'أدلع.' لم أشعر أنني كنت مبسوطة كما تخيلت."
أضافت طبيبة "رفضت التصريح باسمها"، وهي طبيبة نساء وتوليد بمحافظة أسوان: "تشكّل جريمة تزويج الطفلات قبل بلوغ سن 18 عامًا خطرًا صحيًا بالغًا، حيث يُعد الحمل في سن مبكرة أحد الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الولادة المبكرة، وهي من أكبر التحديات الصحية التي قد تؤدي إلى وفاة حديثي الولادة أو الأم في حالات عديدة. التسمم الحملي، الذي يتسبب في ارتفاع ضغط الدم بشكل مفرط خلال الحمل، هو أحد المضاعفات الشائعة في الحوامل القاصرات، مما يعرضهن لخطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، تتعرض الفتيات اللاتي يتزوجن في سن مبكرة لخطر الإصابة بفقر الدم الحاد بسبب نقص الحديد، والذي يرتبط بالولادات المبكرة والمضاعفات الأخرى، وكذلك التهابات المسالك البولية التي تتكرر في الحوامل في سن صغيرة. من جانب آخر، تؤثر الولادة في هذا العمر على النمو العقلي والعاطفي للفتاة، حيث يمكن أن يسبب الحمل المبكر الاكتئاب بعد الولادة نتيجة الضغط النفسي الناتج عن تحمل مسؤوليات الأمومة في سن غير ناضجة. وحتى إذا تزوجت الفتيات مبكرًا، لم يكن لديهن الوعي الكافي لتأجيل الحمل لفترة مناسبة لهن، ويرجع ذلك لضغوط أسرهن وأسرة الزوج. وهنا في العيادة، تزورني كل فترة فتيات حملن في سن مبكرة، والحقيقة أنه بجانب عملي كطبيبة انا على المستوى الشخصي أكون خائفة عليهن للغاية وخائفة على صحتهن و أن يصيبهن أي مضاعفات سواء اثناء الحمل او اثناء الولادة ولذلك تكون المتابعة الدورية اكثر من اي حمل اخر ، نسبة تزويج القاصرات قلت بعض الشئ عن السابق بسبب التقييد القانوني ولكن المشكلة مازالت قائمة لم تحل تماما.
*الأبعاد القانونية*
طبقًا للمادة رقم (31) مكرر من قانون الأحوال المدنية المصري رقم (143) لسنة 1994، المعدلة بالقانون رقم (126) لسنة 2008، تم تحديد سن الزواج لكل من الزوجين بـ 18 سنة ميلادية على الأقل، حتى يتمكنا من إثبات عقد الزواج أمام الجهات الرسمية. كما ينص قانون العقوبات في مادته (227) على أن "يعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد عن ثلاثة آلاف جنيه، كل من قدم بيانات زائفة أمام السلطة العامة بهدف تمكين أحد الزوجين من بلوغ السن القانوني للزواج". ويعاقب بالحبس أو غرامة لا تتجاوز 50 جنيهًا كل شخص له السلطة على إبرام عقد زواج وكان يعلم أن أحد الطرفين لم يبلغ السن المحددة في القانون، وتطبق العقوبات على الولي المسؤول، والموظف الشرعي، والشهود فقط.
وفي سياق متصل، ينص قانون رقم 64 لسنة 2010 على أن "الزواج المبكر يعد من حالات الاتجار بالبشر، ويعاقب عليه بالسجن المؤبد وغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه على الولي المسؤول عن إتمام الزواج".
كما نص الدستور المصري في المادة 80 على أن "الطفل هو كل من لم يبلغ 18 سنة من عمره"، وأكدت المادة الخامسة من قانون الأحوال المدنية (رقم 143 لسنة 1994 المعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008) على أنه "لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين 18 سنة"، مع فرض عقوبة تأديبية على من يوثق عقد زواج بالمخالفة لهذه الأحكام.
فيما يخص الزواج العرفي للأطفال دون 18 سنة، فرض القانون عقوبة السجن والغرامة على إتمام هذه الزيجات، نظرًا لآثارها النفسية السلبية على الأطفال. حيث نصت المواد (267) و(268) و(269) من قانون العقوبات على أنه لا يجوز التصادق على عقد زواج لطفل أو طفلة لم يبلغا 18 سنة. وتطبق العقوبة على الولي أو الوصي، والمأذون الذي يعقد هذا الزواج، ولا تسقط العقوبة ببلوغ الطفل السن القانونية. وتتراوح العقوبة بين الحبس لمدة ستة أشهر، وغرامة تتراوح بين 20 ألف و50 ألف جنيه، بالإضافة إلى عزل المأذون من مهنته.
ومع ذلك، تواجه هذه القوانين عدة ثغرات قانونية. فعلى الرغم من وجود تشريعات واضحة، فإن تطبيق هذه القوانين قد يكون ضعيفًا في بعض المناطق الريفية والنائية، مما يسمح بعقد زيجات مبكرة رغم مخالفتها للقانون. ويعتبر الزواج العرفي من أبرز الثغرات القانونية، حيث يتم إبرام عقود زواج دون توثيق رسمي، مما يسهل إتمام الزواج المبكر دون رقابة قانونية في بعض الحالات. كما أن نقص التوعية القانونية وعدم وجود رقابة كافية في بعض المناطق يعززان من استمرار ظاهرة الزواج المبكر، مما يعرض الفتيات لخطر الزواج المبكر.
فتطبيق القوانين يواجه تحديات بسبب التقاليد و الضغوط المجتمعية، وما زالت الجريمة قائمة وتتم بشكل صامت وخفي. منهية لحياة مرحلة الطفولة للفتيات وتطفئ أيضًا أحلامًا وطموحات يمكن أن تغير حياة الفتيات ومجتمعاتهن. في كل مرة ترتكب هذه الجريمة في حق فتاة قاصر مجبرة على الزواج، يتم حرمانها من قد أن تكون طبيبة، معلمة، أو حتى قائدة قادرة على إحداث تغيير إيجابي في مجتمعها.