في كل مرة تُقتل فيها امرأة، ويُطوى دمها تحت بند «الرأفة»، أو تُقاوَم صرختها بحاجزٍ من «التأويلات الشرعية»، أو يُخفَّف الاعتداء عليها إلى «نية سليمة» أو «حماية الشرف»، نكون أمام حقيقة واحدة لا يمكن التهرب منها أن قانون العقوبات المصري، بصيغته الحالية، لا يحمي النساء … بل إن بعض مواده ما تزال، حتى اليوم، تعمل كجذور صلبة للإفلات من العقاب، وتُعيد إنتاج العنف الأسري باعتباره «خلافًا منزليًا»، لا جريمة تُرتكب داخل أكثر الأماكن المفترض أنها آمنة
رغم أن التشريعات تُقدَّم في ظاهرها باعتبارها حامية للحقوق ومنظمة للعدالة، فإن قراءة متأنية لمواد قانون العقوبات المصري تكشف عن بنية قانونية تُشرعن العنف الأسري وتعيد إنتاج السيطرة الذكورية تحت غطاء النصوص الدينية، والرأفة، والشرف، والأخلاق. ليست المشكلة في تطبيق القانون فقط، بل في قلب بنيته التي تمنح الرجل امتيازات واسعة على حساب حماية النساء، وتحوّل الجرائم إلى خلافات أسرية، والاعتداءات إلى ممارسات «مفهومة» أو «مشروعة». في هذا السياق، تصبح المواد ٧، ١٧، ٦٠، ٢٣٧، ٢٧٤ — تشكل نقاطًا مظلمة في جسد القانون، تُضعف مبدأ المساواة أمام القضاء، وتسمح للثقافة الأبوية أن تتسلل إلى منصة الحكم، وتحوّل العدالة إلى معادلة تميل لصالح الجاني وتخذل الناجيات إلغاء أو تغيير هذه المواد ليس خيارًا بل خطوة ضرورية لإرساء عدالة حقيقية تمنع استمرار العنف الأسري وتحد من شرعنته
المواد القانونية كأدوات لإفلات الجناة وإعادة إنتاج السيطرة الذكورية
تعمل المادة (٧) كصمام يسمح بتمرير العنف تحت غطاء «الحقوق الشرعية»، فهي تفتح الباب واسعًا أمام القضاة لتعليق أحكام قانون العقوبات كلما تعلق الأمر بعلاقات القوة داخل الأسرة فرغم أن صياغتها تبدو بسيطة وبريئة، إلا أنها تمارس أحد أخطر أدوارها في إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، إذ تستدعي تأويلات فقهية وُضعت في الماضي — في سياق اجتماعي كان يرسّخ القوامة والطاعة والولاية — لتُقدَّم باعتبارها شريعة ملزمة تعلو على القانون الحديث وبدل أن تُستدعى الشريعة باعتبارها منظومة قيمية تقوم على العدل وحرمة الجسد وكرامة الإنسان، تُستحضر المادة ٧ بوصفها ترخيصًا للعنف الأسري، يُعاد معه تعريف الضرب باعتباره «تأديبًا»، والسيطرة على حركة النساء بوصفها «حقًا في الطاعة»، والانتهاك النفسي أو الاقتصادي باعتباره «ولاية» أو «قوامة» وفي ظل هذه المرونة غير المنضبطة في التفسير، يتحول جسد النساء داخل الأسرة إلى مساحة مستباحة قانونيًا، فلا تتعامل معها المنظومة ك ذات كاملة تستحق الحماية، بل كجزء من بنية سلطوية يملك فيها الرجل هامشًا مشروعًا لفرض السيطرة وتكشف المادة كيف تُستخدم التأويلات الدينية لا بوصفها طريقًا للعدالة، بل كوسيلة لتعليق القانون وتحويل العنف إلى ممارسة طبيعية ومحمية تشريعيًا
بينما تعمل المادة (١٧) كمنصة رأفة تتساقط منها حقوق النساء قبل أن تصل إلى ساحة العدالة، إذ تمنح القاضي سلطة واسعة لتخفيض العقوبة إلى مستوى لا يتناسب مع الجرم، حتى عندما يكون العنف قاتلًا أو بالغ القسوة وعلى مدار عقود، تحولت هذه المادة إلى بوابة لتبرير جرائم العنف الأسري وقتل النساء تحت مسميات مُضلّلة مثل «الغيرة»، و«الغضب المفاجئ»، و«الظروف الأسرية»، ليُعاد تأطير الجرائم البشعة باعتبارها انفعالات إنسانية مفهومة أو خلافات منزلية خرجت عن السيطرة هذه المرونة في تخفيف العقاب لا تقلل فقط من خطورة الجريمة؛ بل تعيد تعريف قتل النساء كقضية عائلية، لا كجريمة مكتملة تستحق العقاب الرادع. وبهذا المنطق، تضع المادة (١٧) «مشاعر الجاني» فوق «حياة الضحية»، وتُفضِّل انفعالات الرجل على حق النساء في الحياة والكرامة والأمان، في تشريع يرسّخ عمليًا ثقافة إفلات مرتكبي العنف الأسري من العقاب، ويعيد إنتاج بنية قانونية تعتبر حياة النساء قابلة للتفاوض، وقابلة للتخفيف، وقابلة لأن تُطوى تحت بند الرأفة
تفتح المادة (٦٠) أخطر أبواب تبرير العنف عبر عبارة تبدو بسيطة لكنها مدمِّرة "حسن النية \النية السليمة" فهذا النص الذي يعفي الأفعال المرتكبة «بنية سليمة» تنفيذًا لـ«حق شرعي» يمنح الجاني مساحة هائلة لتبرير العنف الأسري، لأن «النية» مفهوم غير قابل للقياس أو التحقق، لكنه يُستخدم في قلب الموازين لصالح المعتدي وهكذا يتحول الضرب إلى «تأديب»، والتعدي الجسدي إلى محاولة «لدرء الفاحشة»، والإيذاء النفسي أو البدني إلى «حفاظ على الأسرة»، ليُعاد تعريف العنف باعتباره ممارسة مشروعة نابعة من حق أصيل لا جريمة تستوجب العقاب وتخلق المادة نطاقًا فضفاضًا يسمح للمتهم بأن يدّعي أنه كان يمارس «حقًا شرعيًا»، وهو ما يعيد إنتاج منطق السيطرة الذكورية داخل الأسرة، ويُضعف فعليًا قدرة القضاء على الاعتراف بالعنف الأسري كجريمة كاملة بهذا الشكل، تتحول المادة (60) إلى مظلة قانونية تحمي المعتدين وتجرد النساء من أبسط حقوقهن في الأمان الجسدي والنفسي، وتساهم في ترسيخ منظومة ترى العنف فعلًا يمكن تبريره طالما زُعم أنه نابع من «نية حسنة».
تكشف المادة (٢٣٧) كيف يتحوّل «الشرف» في القانون إلى سلاح يمنح الرجال رخصة للقتل، إذ تمنح الرجل الذي يفاجئ زوجته متلبسة بالزنا عقوبة مخففة تكاد تقترب من العفو، رغم أن الفعل هو قتل عمد مكتمل الأركان هذه المادة تُعيد إنتاج منطق «غسل العار» الذي كرّسته البنى الأبوية عبر عقود، وتشرعن قانونيًا فكرة أن جسد النساء ليس ملكًا لها، بل مساحة لتمثيل شرف الرجل وعائلته وبدلاً من أن يرسّخ القانون مبدأ شخصية العقوبة والمساواة المنصوص عليها دستوريًا، فإنه يميّز الجاني وفق دوافعه العاطفية، ويحوّل القتل إلى فعل يمكن تفهّمه أو تخفيفه ما دام يرتبط بجسد النساء وبذلك تفتح المادة بابًا واسعًا للإفلات من العقاب، وتُضفي على جرائم قتل النساء شرعية اجتماعية وتشريعية، تجعل «الشرف» أعلى من الحق في الحياة، وتُثبت أن القانون نفسه ما زال يتحرك داخل منطق يبرر العنف ضد النساء بدل أن يحميهن منه
تكشف المادة (٢٧٤) عن واحد من أكثر التشوهات التشريعية تمييزًا ضد النساء، إذ تُجرَّم المرأة المتزوجة بالحبس في حالة الزنا، بينما يتفادى الرجل العقاب في الظروف نفسها، وكأن الوفاء التزامٌ أنثوي بحت لا يشمل الزوج. ولا تتوقف خطورة النص عند هذا الحد، بل تمتد إلى منح الزوج سلطة إيقاف تنفيذ الحكم بمجرد أن يعلن قبوله «معاشرتها كما كانت»، ليصبح بيده حق العفو وكأن جسد المرأة وسيلة تفاوض قانوني، وكأن حريتها مشروطة باستمرار علاقة حميمية لا يملك القانون نفسه سلطة تقييمها. هذا النص لا ينطوي فقط على تمييز نوعي، بل يرسّخ سلطة زوجية تُحيل الرجل إلى قاضٍ فوق القانون، ويُذل المرأة بتحويل جسدها إلى ثمن لوقف العقوبة.
أما المادة (٢٧٨)، التي تتناول «الفعل الفاضح»، فهي مثال آخر على نص تشريعي فضفاض يُستخدم اجتماعيًا وقضائيًا بتمييز سافر ضد النساء، خصوصًا في قضايا الاتهامات الأخلاقية التي تُبنى على تصورات ذكورية للعار والشرف، دون أي تعريف دقيق لماهية «الفعل الفاضح» أو معايير تطبيقه. هذا الغموض التشريعي يسمح بتحويل جسد المرأة وسلوكها العام إلى موضوع للرقابة والمعاقبة، بينما يبقى الرجل غالبًا خارج دائرة الاتهام حتى في الوقائع ذاتها.
ولا يمكن التعامل مع هذه المواد باعتبارها مجرد «نقاط تحتاج تعديلًا»، لأنها ليست مجرد ثغرات قانونية، بل جذور تشريعية تُنتج إفلاتًا ممنهجًا من العقاب. فمن خلالها بُنيت تأويلات قضائية رسّخت فكرة أن العنف داخل الأسرة شأن عائلي خاص، لا جريمة جنائية تستحق الردع، وهو ما أدى إلى تفاوت كبير في الأحكام، وصولًا إلى تخفيف عقوبات في جرائم قتل النساء نفسها. إنها منظومة تشريعية كاملة تُعيد إنتاج السيطرة الذكورية باسم الأخلاق والشرف والشرعية، وتحرم النساء من حماية القانون، وتُبقي حياتهن وسلامتهن وكرامتهن رهائن لتقديرات ذكورية تُمارس السلطة من داخل النص وخارجه.
فلسفة العقاب المفقودة في حماية النساء
الهدف من نقد مواد قانون العقوبات لا يقتصر على تعديل نصوص بعينها، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة فلسفة العقاب نفسها، بحيث تتحول العدالة من مفهوم شكلي يعتمد على التأويلات الذكورية إلى إطار يحمي النساء ويعيد الاعتبار لحقهن في الأمان والحياة والكرامة. إن القانون الحالي يفتقد إلى فلسفة واضحة للعقاب أو التعويض في جرائم العنف الأسري، ويجعل من المرأة ضحية مزدوجة: ضحية للعنف نفسه، وضحية لفراغ نصي وقصور مؤسساتي يمنح الجاني امتيازات غير مستحقة. ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري اعتماد قانون موحد وشامل لمناهضة العنف ضد المرأة، يقوم على تعريفات دقيقة لأشكال العنف سواء الجسدي أو النفسي أو الاقتصادي، وعلى منظومة عقوبات عادلة وغير تمييزية، بالإضافة إلى آليات حماية فورية للناجيات وإطار واضح لتعويضهن ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا، مع التأكيد على أن أي إصلاح لا يغيّر فلسفة العقاب سيظل ناقصًا، لأن التغيير الحقيقي لا يقتصر على فروع القانون، بل يتطلب إعادة التفكير في العلاقة بين النصوص القانونية والعدالة المجتمعية، وإعادة تعريفها من منظور يضع حماية النساء في صميمه ويحول القانون إلى أداة للردع والحماية الفعلية، لا مجرد حبر على ورق يسمح للهيمنة الذكورية بالاستمرار تحت غطاء الشرعية والتقاليد
قانون موحد لمناهضة العنف وحماية الناجيات
من أجل قانون لا يخون النساء، نحن نطالب بقانون موحد لمناهضة العنف، يضع استقلال القضاء عن الثقافة الأبوية في قلبه، بحيث يستند الحكم إلى النص القانوني والمساواة، لا إلى الأعراف أو الاعتبارات الاجتماعية، مع وضع عقوبات متناسبة مع جرائم العنف تراعي مصلحة المجتمع في ضمان المساواة داخل الأسرة وحماية الناجيات فالنساء يُقتلن، وأطفال يكبرون في منازل العنف، ومجتمع يُطبع مع الإيذاء باعتباره جزءًا من «الأسرة الشرقية»، وهو واقع يفرض إعادة النظر الجذرية في المواد ٧، ١٧، ٦٠، ٢٣٧، ٢٧٤، وغيرها، ليس كمطلب نسوي فحسب، بل كضرورة قانونية لبناء دولة تعامل النساء كمواطنات كاملات الحقوق، حيث تصبح حياتهن وسلامتهن وكرامتهن أولوية، ويكون القانون أداة ردع وحماية فعلية، لا غطاءً لإفلات الجناة من العقاب أو لترسيخ هيمنة ذكورية مستمرة