احنا هنا

١٣ ديسمبر ٢٠٢٥

العنف الذي تتعرّض له النساء المستقلات ماديًا: حين يصبح الاستقلال تهديدًا للنظام الأبوي

قامت بكتبتها / بسملة النقيب - يمنى حسن
كلما ازدادت النساء قدرةً على إعالة أنفسهن واتخاذ قراراتهن الحياتية بمعزل عن هيمنة الأسرة أو السلطة الذكورية، اشتدّت مقاومة المجتمع الأبوي لمحاولاتهن في التواجد بحرية فالاستقلال المادي للنساء لا يُنظر إليه كخطوة طبيعية نحو النضج والاستقلالية، بل كخروج “مقلِق” عن القوالب التقليدية التي يُفترض أن تظل النساء محصورة داخلها،  ومن هنا يبدأ العنف—بصورة الصامتة والعلنية—في ممارسة ضغطه على المرأة المستقلة 

الرقابة المجتمعية التي تُمارس كسلطة على الجسد والحياة الخاصة

منذ اللحظة التي تختار فيها امرأة أن تعيش وحدها أو تتحرك دون مرافق، تُوضع تحت مجهر مجتمعي لا يهدأ، حيث تتحول حياتها اليومية إلى مساحة مفتوحة للتفتيش والتقييم والحكم الأخلاقي تبدأ الرقابة من التعليق على وقت خروجها وعودتها، مرورًا بملابسها وطريقة ظهورها، وصولًا إلى دوائر علاقاتها ووجودها في المساحات المختلطة ، كل تفصيل صغير في حياتها يصبح مادةً للتأويل والوصم، وكأن مجرد استقلالها المادي يُسقط عنها “الوصاية المفترضة” ويمنح الآخرين حقًا غير معلن في مراقبتها ومعاقبتها اجتماعيًا هذا التدخل لا ينبع من “حرص” كما يُروَّج، بل من شعور جمعي بأن استقلال النساء تهديد لنظام اعتاد التحكم في جسدها وحركتها واختياراتها. وعلى عكس الرجال الذين يتحركون في الحياة بلا هذا الكم من التدقيق، تُفرض على النساء رقابة مضاعفة لا تستهدف السلوك بقدر ما تستهدف فكرة أن امرأة تستطيع أن تعيش بحرية خارج القبضة الأبوية

تمييز مهني مقنّع: حين تُفسَّر كفاءتها من خلال نمط حياتها

تواجه النساء المستقلات في سوق العمل نمطًا خفيًا من التمييز يبدأ بالتشكيك في التزامهن ويصل إلى محاكمة كفاءتهن المهنية من خلال نمط حياتهن لا قدراتهن ، فيُفترض أنها مشغولة بحياتها الشخصية، أو أنها لن تلتزم بمواعيد العمل لأنها “بتتأخر”، أو أن “ظروفها مش مناسبة” لأنها تسكن بمفردها هذه الأحكام الجاهزة تُستخدم لتقليص فرصها في الترقّي أو لاستبعادها من مقابلات التوظيف دون سبب معلن، رغم امتلاكها المؤهلات والخبرة. ما يحدث هنا ليس تقييمًا للكفاءة، بل رقابة أخلاقية تُفرض على النساء فقط، فتتحول خياراتهن الشخصية إلى معيار يُقاس عليه جدّيتهن المهنية وفي حين يُكافأ الرجل على استقلاله، تُعاقَب المرأة عليه، في رسالة واضحة بأن استقلالها الاقتصادي لا يكفي وحده لكسر القيود ما دام الحكم على سلوكها الاجتماعي يسبق الحكم على قدراتها الحقيقية.

تحرش واستهداف أعلى لأنها بلا “حماية ذكورية”
تتعرض النساء المستقلات لمستوى أعلى من التحرش والاستهداف، إذ تنظر الثقافة الذكورية إلى غياب الرجل عن حياتها باعتباره نقصًا في “الحماية”، ما يجعل وجودها في المجال العام محل اعتداء مُباح في نظر البعض يُطلق المتحرشون تعبيرات جنسية مهينة أو إيحاءات تستهدف كسر ثقتها بنفسها، ويرون في استقلالها المادي وعيشها بمفردها فرصة لإعادة إخضاعها رمزيًا عبر العنف اللفظي أو الجسدي. وفي كثير من الأحيان، مجرد معرفتهم بأنها تعيش وحدها يكفي لتصعيد الاستهداف أو التربّص، باعتبارها “سهلة المنال” أو بلا سند يمكنه ردّ العدوان. هذا العنف ليس حدثًا عابرًا أو سوء سلوك فردي، بل هو انعكاس مباشر لفكرة راسخة في البنية الأبوية: أن جسد المرأة وحرمتها لا يُحترمان إلا بوجود رجل يحيط بها، وأن استقلالها يُعتبر خروجًا عن قواعد السيطرة ينبغي “تأديبه” عبر التحرش.

عنف قانوني مُقنّن بالثغرات والتمييز

على الصعيد القانوني، تواجه النساء المستقلات ماديًا بيئة تشريعية وتنفيذية غير مهيّأة للتعامل الجاد مع قضايا العنف ضد النساء المشكلات لا تبدأ عند وقوع الجريمة، بل مع الخطوة الأولى: الإبلاغ فالكثير من النساء يصطدمن بتحيّزات ضباط الاستقبال، ومسؤولي التحقيق، والعاملين على تحرير المحاضر، وهي تحيّزات لا تصدر من “أفراد” فقط، بل من ثقافة مؤسسية كاملة. يُسأل عن ملابسها، لماذا كانت وحدها، لماذا خرجت في هذا الوقت، وكيف تعيش بمفردها، وكأن حقّها في الأمان مشروط بطريقة عيشها. أما في حالة المرأة المستقلة، فيُضاف إليها وصف ضمني بأنها “غير محترمة اجتماعيًا” وبالتالي “شكواها غير موثوقة”.

من الناحية القانونية، لا يوجد ما يُسمّى “ملابس مستفزة” أو “سكن منفرد” كأسباب قانونية لتبرير التحرش أو الاعتداء، ولكن الواقع العملي يُظهر أن تلك المفاهيم تُستخدم ضمنيًا لتقليل جدية المحضر أو إفراغه من قوته القانونية. وهذا يُعدّ تعسفًا واضحًا في تطبيق القانون، لأن المادة (306 مكرر أ وج) من قانون العقوبات تُجرّم التحرش صراحة بصرف النظر عن سلوك المجني عليها. وبموجب أحكام النقض المستقرة، لا يُعتدّ بالملابسات غير المتصلة بوقوع الجريمة ما لم يؤدّ إليها سبب قوي وثابت ومع ذلك، يُعرقَل تطبيق هذا المبدأ يوميًا بسبب الممارسات التمييزية

تتعقد الأزمة أكثر بسبب غياب قانون موحّد للعنف ضد النساء فالقضايا المتعلقة بالعنف تُنظَّم اليوم عبر نصوص متناثرة في قانون العقوبات، بعضها وُضع في أربعينيات القرن الماضي، ولم يُصمم للتعامل مع صور العنف الحالية: مثل التتبع ، التهديد الرقمي، الابتزاز عبر الصور، أو العنف الموجّه ضد نساء يعشن بمفردهن. غياب قانون شامل يؤدي إلى ثلاثة إشكالات جوهرية:

  1. غياب آليات الحماية الفورية لا توجد أوامر حماية تُصدرها النيابة أو المحكمة بسرعة لمنع الجاني من الاقتراب أو التهديد. وهو أمر موجود في قوانين العديد من الدول العربية، بينما في مصر لا يُعترف به قانونًا إلا في حالات العنف الأسري (وعلى نطاق محدود).


  2. بطء الإجراءات وغياب المسارات الآمنة للناجيات لا توجد مسارات قانونية تُعفي المبلّغات من مواجهة المعتدي مباشرة، ولا توجد وحدات متخصصة في أقسام الشرطة لتلقي بلاغات العنف كقضايا خاصة، رغم أن العنف ضد النساء يُعد جريمة تستلزم معالجة حسّاسة.


  3. خضوع القضية بالكامل لتقدير الموظف القائم على المحضر بعض الموظفين يسجّلون الوقائع تحت وصف قانوني أخفّ (مثل “مشادة” بدل “تهديد”، أو “تحرش لفظي” بدل “تحرش جنسي”)، مما يُفقد القضية قوتها عند الإحالة للنيابة. وهذا النوع من نقص الوصف يُعتبر في الفقه والقضاء أحد أهم أسباب انهيار القضايا عند نظرها أمام المحكمة.


المرأة المستقلة هي الأكثر تضررًا من هذه الفجوات، لأن السياق الاجتماعي يُستخدم ضدها في كل خطوة:
تُحمَّل مسؤولية الجريمة، يُشكَّك في روايتها، يُخفَّف وسم الواقعة قانونيًا، وتُترك بلا حماية قبل وأثناء وبعد الإبلاغ.

وهكذا، لا يقف القانون بجانبها إلا على الورق، بينما يظل التطبيق العملي—بسبب الثقافة الأبوية—أداة لإعادة إنتاج اللامساواة نفسها التي خرجت المرأة من أجل مقاومتها.

القانون في وضعه الحالي لا يحمي النساء المستقلات، بل يتركهن في فراغ قانوني خطير، حيث يعتمد وصولهن للعدالة على مزاج الموظف، لا على نصوص القانون. ولهذا يصبح الإصلاح التشريعي ضرورة لا ترفًا، وبالأخص: إصدار قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء، يضمن حماية حقيقية ومُلزمة، ويكسر الحلقة الدائمة من التمييز

ورغم كل شيء… النساء المستقلات يُعدن كتابة القواعد


المرأة التي تختار أن تعيش وحدها، تعمل، تدفع إيجارها، وتتحكم في مستقبلها، ليست “استثناءً” ولا “خطرًا”، بل نموذجًا طبيعيًا لعلاقة صحية بين المرأة وذاتها.
وجود النساء في هذه المساحة يعيد تعريف توزيع القوة داخل المجتمع، ويؤكّد أن الحرية ليست امتيازًا، بل حقًا كاملًا.

كل امرأة مستقلة تمهّد الطريق لغيرها، وتكسر دائرة الخوف، وتواجه بنية كاملة من العنف الثقافي والقانوني والاجتماعي.
وما نراه اليوم من مقاومة شرسة لاستقلال النساء ليس إلا دليلًا على أن النظام الأبوي يرى في استقلالهن بداية النهاية لسيطرته 






مقالات اخري

article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
“ثمن الاستقلال: حين يتحول استقلال النساء إلى تهمة”
  تعيش النساء في عالم تتقاطع فيه المسؤوليات اليومية مع القيود المجتمعية، وتتداخل فيه رغبتها في الاستقلال مع نظرات الشك والاتهام وبينما تسير مجتمعات كثيرة نحو الاعتراف بحقوق النساء وتمكينهن اقتصادياً واجتماعياً، ما تزال أنماط التفكير القديمة تحاصر آلاف النساء؛ فتصف العاملة بالطمع، والمستقلة بالأنانية، والطموحة بالتمرّد على “الدور الطبيعي ومع ذلك، تُولد من قلب […]
قرائة المزيد
article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
الصحفيات في مرمى خطاب الكراهية
” كيف يُصنع خطاب الكراهية ضد الصحفيات في الفضاء الرقمي؟” : في السنوات الأخيرة، باتت الصحفيات اللاتي اخترن تبنّي خطاب نسوي ودفع قضايا النساء إلى صدارة النقاش العام، هدفًا مباشرًا لتحيزات مركبة تبدأ داخل غرف التحرير ولا تنتهي عند حواف الفضاء الرقمي فالمشهد الإعلامي الذي يفترض به أن يكون منصة للعدالة والحرية، يتحوّل في كثير […]
قرائة المزيد