في ختام حملتنا "صحفيات بلا حماية"، التي نفذتها مبادرة جندريست بالتعاون مع مؤسسة تدوين لدراسات النوع الاجتماعي، يهدف هذا المقال إلى تلخيص النتائج وتقديم توصيات للتغيير نضع أمامكم النتائج التي كشفتها سلسلة المواد الصحفية التي سلطت الضوء على واقع النساء في المهنة، من خلال رصد بيانات دقيقة، وتحليل لأوجه التمييز والعنف والتهميش الذي تتعرض له الصحفيات في بيئة العمل الإعلامي.
لم تكن هذه الحملة مجرد توثيق لانتهاكات فردية ، بل محاولة لرصد ممنهج لبنية غير عادلة، تعيد إنتاج الإقصاء بأشكال متعددة، وتدفع كثيرات إلى الانسحاب من مهنة طالما ناضلن من أجل دخولها وهذا الانسحاب يعكس عمق الأزمة البنيوية.
في هذا المقال، نستعرض ما تم جمعه من وقائع وبيانات، نعرض أيضًا توصيات عملية بحسب ما نراه ضروريًا لضمان بيئة عمل آمنة، عادلة، ومُمَكِنة للصحفيات في مصر.
رغم أن المادة (53) من الدستور المصري تنص على حظر التمييز بكافة أشكاله، بما في ذلك التمييز في الأجور بسبب النوع الاجتماعي، إلا أن الواقع داخل المؤسسات الصحفية لا يعكس هذا النص الدستوري.
تكشف الشهادات التي جمعتها الحملة عن استمرار التمييز في الرواتب والامتيازات، حيث تتقاضى الصحفيات أجورًا أقل من زملائهن الذكور رغم تساوي عبء العمل أو تفوقهن في الكفاءة والمجهود وتُمارس غالبًا دون شفافية أو مبررات واضحة وهو ما يعكس خللًا بنيويًا في ثقافة العمل الصحفي ذاته
لا يتوقف التمييز عند الأجر، بل يمتد إلى توزيع المهام والأقسام التحريرية. ما تزال معظم الصحفيات محصورات في تغطية ملفات "المرأة"، "الثقافة"، أو "الخدمات"، بينما يحتكر الصحفيون الذكور التغطيات السياسية والاقتصادية والاستقصائية التي تحظى بقدر أكبر من التقدير المهني والمكافآت والفرص الخارجية.
هذا التنميط الوظيفي لا يستند إلى كفاءة، بل إلى تصورات أبوية ترى النساء أقل قدرة على "التحمّل"، أو تعتبر أدوارهن المهنية مؤقتة وهامشية. والنتيجة: مسارات مهنية مشوهة، وتحجيم مستمر لقدرات الصحفيات، حتى في حالات التفوق الفردي.
كشفت الحملة عن نمط واسع الانتشار من الاستغلال المهني، لا سيما في المراحل الأولى من المسيرة الصحفية. حيث تعمل العديد من الصحفيات لسنوات تحت مسمى "التدريب" دون أجر أو بعقود مؤقتة غير مضمونة، وغالبًا ما يُستخدم هذا الوضع كأداة للتحكم فيهن، وحرمانهن من الحقوق الأساسية مثل التأمينات أو الإجازات أو الترقّي.
إحدى الشهادات تكشف عن عمل مجاني لعام كامل قبل تعيينها براتب زهيد، ثم تهميشها بعد الزواج والإنجاب حتى اضطرت للاستقالة. هذه القصة لا تُعد استثناءً، بل تمثل نمطًا يتكرر مع عدد كبير من الصحفيات.
من أبرز ما رصدته الحملة هو غياب السياسات مؤسسية تحمي الصحفيات خلال فترات الحمل والولادة. على العكس، تتحول الأمومة إلى "نقطة سوداء" في ملف الصحفية، تُقصى بعدها من التغطيات الميدانية، وتُستبعد من الترقّي، وتُدفع دفعًا نحو الانسحاب من المشهد المهني.
هذه الثقافة لا تقوض فقط فكرة العدالة، بل تدمر استدامة الصحافة كمسار مهني للنساء."وتحرم المؤسسات ذاتها من طاقات وكفاءات كان يمكن أن تُوظف وتُنمّى.
أحد المحاور الجوهرية التي تناولتها الحملة هو العنف الذي تتعرض له الصحفيات داخل بيئة العمل، سواء كان عنفًا جنسيًا (لفظي، جسدي، إلكتروني)، أو معنويًا عبر الإقصاء، التنمر، وتقليص فرص النمو المهني.
رغم هذا الواقع، لا توجد آليات فعالة داخل المؤسسات أو النقابات للتعامل مع هذه الانتهاكات. فلا توجد سياسات واضحة للإبلاغ، ولا لجان مختصة للتحقيق، ولا ضمانات لحماية المبلّغات
في كثير من الحالات، تفضّل الصحفيات الصمت خوفًا من فقدان الوظيفة، أو بسبب اليأس من المساءلة، أو خشية الوصم المجتمعي
هذا الواقع يرسّخ دائرة العنف والإفلات من العقاب، ويحرم الصحافة من بيئة مهنية آمنة للنساء.
تكشف مراجعة هياكل التحرير في المؤسسات الصحفية عن غياب شبه كامل للنساء في مواقع صنع القرار من النادر أن نجد صحفية تتقلد منصب رئيس تحرير أو مدير تحرير، أو حتى مسؤول ملفات سيادية
هذا الغياب ليس محض مصادفة، بل نتاج منظومة تكرّس احتكار الذكور للسلطة المهنية، وتغلق أمام النساء مسارات الصعود، سواء عبر المعايير غير العادلة، أو الحرمان من فرص التدريب والتكليفات التي تصنع القيادات
وبغياب النساء عن مراكز القرار، يستمر إنتاج بيئة عمل لا تراعي احتياجاتهن، ولا تعكس أصواتهن، ولا تنصف قضاياهن
: انطلقت الحملة ليس فقط لتشخيص الواقع، بل أيضًا لصياغة مطالب واضحة من أجل تغيير حقيقي في بنية العمل الصحفي من أبرز هذه المطالب:
إصدار لوائح مؤسسية تجرّم التمييز في الأجور والتكليفات المهني
إلزام المؤسسات بالشفافية في هيكل الأجور ومعايير الترقي
توفير آليات آمنة وسرية للإبلاغ عن العنف والتحرش، مع حماية المبلّغات
إنهاء التنميط القائم على النوع الاجتماعي في توزيع الأقسام والمهام دعم الصحفيات خلال فترات الحمل والإنجاب بسياسات مرنة وعادلة
تمكين الصحفيات من الوصول إلى مواقع صنع القرار
خلق فرص تدريب قيادية متساوية تفعيل الدور الرقابي للنقابات، وضمان تمثيل نسوي حقيقي داخلها
النضال من أجل حرية الصحافة لا يمكن أن يكون مكتملًا دون النضال من أجل حرية الصحفيات داخل هذه المنظومة فالصحافة التي تُقصي نصف طاقتها البشرية، هي صحافة تفتقد جوهر العدالة والمهنية.