أثرت ثورة التكنولوجيا وتوسيع فضاءات التواصل الاجتماعي بشكل كبير على شتى المجالات و برز دورها بشكل ملحوظ مما دفع العديد من القطاعات لمواكبة هذا التطور التكنولوجي، وأصبح من الضروري استيعاب هذه المستجدات، لما لها من دور في تحقيق الأهداف والغايات التي تسعى إليها هذه المجالات.
لم يتوقف تأثر المجال الإعلامي عند هذا الحد، بل يعد من أولى المجالات تأثراً من ناحية ديناميكية العمل التي تغيرت بشكل كامل لتسير مع هذا التطور خطوة بخطوة، والذي أدى بدوره إلى فتح المجال أمام إنشاء منصات و نوافذ إعلامية إلكترونية، سواء علي المستوي المحلي أو العالمي.
علي الرغم من الآثار الايجابية و المزايا من الاندفاع نحو هذه التطورات التكنولوجيا و الفروقات التي أحدثتها وأثرت على واقعنا المعاش، إلا أن إيقاع التقدم التكنولوجي لم يصحبه القدر المطلوب من الضوابط ووضع السياسات التي تنظم هذا التطور، أو إتخاذ تدابير احترازية لمنع الأضرار المتوقعة، أو تفعيل أدوات تضمن سرعة في الاستجابة. و حتى صدور القوانين والتشريعات المتعلقة بالجرائم الالكترونية جاءت متأخراً نسبياً مقارنة بالتطور التكنولوجيا، مما جعل البيئة الرقمية بيئة خصبة لتنامي معاناة أخرى تعاني منها العديد من الفئات و خاصة النساء.
يعد العمل الصحفي للنساء نموذجاً صارخاً على مدى التهميش والمعاناة التي تعاني منها النساء في المجال العام و سوق العمل، كما يجسد بصورة جلية امتداد دوائر العنف المبنى على اساس النوع الاجتماعي.
ولذلك وجدت هذه الدوائر ملاذاً لمواصلة سلاسل العنف على النساء؛ إذ يعد العنف الرقمي، لاسيما التحرش الالكتروني سلاحاً فتاكاً لقمع النساء، و إبعادهن عن الفضاء الرقمي، خاصة للصحفيات. إذ تتجاوز آثار هذا العنف الإيذاء الشخصي، حيث يهدد حرية التعبير ويقلص مساحات وفرص للمشاركة في الفضاء العام، مكرساً قيوداً إضافية على النساء.
عرفت منظمة الاسكوا التحرش الالكتروني بانه:
"أي سلوك عدواني أو غير مرغوب فيه يتم عبر الإنترنت أو الوسائط الرقمية، يهدف إلى الإضرار، أو
التخويف، أو الإذلال، أو السيطرة على الضحية".
ويشمل ذلك التهديدات، والمطاردة الإلكترونية، والخطاب المعادي للنساء ويحرض الكراهية والعنف تجاهن، ونشر المعلومات الشخصي، و المضايقات المتكررة.
بالنسبة للصحفيات – بحكم عملهن القائم على التعبير عن الرأي ونشر المعلومات – يُصبحن في موقع مستهدف من قبل المتحرشين، خاصةً عند تناولهم مواضيع تتعلق بالسياسة، الدين، أو قضايا النوع الاجتماعي".
وتشير منظمة مراسلون بلا حدود (2021) إلى أن "النساء العاملات في الإعلام هن من أكثر الفئات تعرضاً للعنف الرقمي، وغالباً ما تأخذ الهجمات طابعاً جنسياً أو شخصياً أكثر مما هي مهنية".
التحرش الإلكتروني ليس حادثاً معزولاً أو عرضياً، بل هو امتداد للعنف المبني على النوع الاجتماعي في الفضاء الرقمي والواقعي، على ناحية واقع يتعرضن فيه النساء للعنف الجسدي والجنسي ويرغمن على السكوت في المساحات العامة الواقعية، يتم استهداف النساء عبر شاشات الحواسيب والهواتف، مما يضاعف من الأثر ويزيد من إعاقة حرياتهن وحقوقهن.
وتشير دراسة أعدتها منظمة اليونسكو (2021) بالتعاون مع المركز الدولي للصحفيين إلى أن 73% من الصحفيات تعرضن لأحد أشكال العنف الرقمي خلال مسيرتهن، وأن هذا العنف يتضاعف عندما تنتمى الصحفية إلي خلفية عرقية أو دينية مختلفة، أو تنتمي لمجموعة مهمشة، مما يعكس حاجة ماسة لحماية خاصة ودعم مستمر للصحفيات في مجتمع الإعلام الرقمي.
للتحرش الإلكتروني انعكاسات خطيرة على الصحفيات على المستوى الاجتماعي والمهني:
إن التحرش الإلكتروني بالصحفيات هو تهديد حقيقي لحق النساء في حرية الرأي والتعبير، وحرية العمل الإعلامى، ومشاركة النساء في الفضاء العام. وهو ليس سلوك عابر، بل يعبر عن منظومة داعمة للعنف المبني على النوع الاجتماعي، والتي تستمر في إنتاج السيطرة الذكورية حتى في الفضاءات الرقمية.
لذلك، من الضروري سنّ تشريعات واضحة تُجرّم التحرش الإلكتروني، وتطوير آليات الحماية القانونية للصحفيات، بالإضافة إلي تعزيز و تطوير سياسات تحريرية داخل المؤسسات الإعلامية لضمان حماية العاملات، وتوفير دعم نفسي وقانوني عند الحاجة.
كما يتطلب الأمر ضغطاً على منصات التواصل الاجتماعي لتطبيق سياسات صارمة ضد الحسابات المتحرشة، وتيسير آليات الإبلاغ عن قضايا العنف. و تعزيز حملات توعية مجتمعية تؤكد أن التحرش الإلكتروني هو أحد أشكال العنف وليس مجرد "سلوك عابر".
ولابد من تمكين الصحفيات من أدوات الأمن الرقمي لتأمين وحماية حساباتهن ومعلوماتهن الشخصية. بجانب إنشاء شبكات دعم نسوية تعزز من التضامن بين الصحفيات، وتوفر بيئة آمنة للتبليغ والمناصرة.
وفي النهاية، يجب أن يُنظر إلى التحرش الإلكتروني ضد الصحفيات على أنه قضية حرية وعدالة جندرية. ومع تزايد اعتماد العالم واتجاهه أكثر نحو الرقمنة، يجب أن نعمل على جعل العالم الرقمي آمنًا للنساء، وأن تتطور القوانين و التشريعات و تسبق التطورات التكنولوجية بدلاً من أن تلاحقها.