" كيف يُصنع خطاب الكراهية ضد الصحفيات في الفضاء الرقمي؟" :
في السنوات الأخيرة، باتت الصحفيات اللاتي اخترن تبنّي خطاب نسوي ودفع قضايا النساء إلى صدارة النقاش العام، هدفًا مباشرًا لتحيزات مركبة تبدأ داخل غرف التحرير ولا تنتهي عند حواف الفضاء الرقمي فالمشهد الإعلامي الذي يفترض به أن يكون منصة للعدالة والحرية، يتحوّل في كثير من الأحيان إلى ساحة اختبار قاسية، تتعرض فيها الصحفيات لأشكال متشابكة من العنف الرمزي والمهني والرقمي و غالبًا لا يبدأ خطاب الكراهية ضد الصحفيات بمحتوى مهني، بل بجسدهن، أصواتهن، أو مجرد كونهن نساء مشاعر الغضب تجاه النساء اللواتي يظهرن في المجال العام تتضخم كلما طرحْن قضايا حساسة: التحرش، الحقوق الجندرية، السياسة، والفساد
الإقصاء من التغطيات والملفات الحساسة
كثير من الصحفيات يحرمن من تغطية ملفات حساسة – سياسية أو اقتصادية – بحجة أنها “تحتاج أعصاب جامدة” أو “علاقات” أو “خبرة أمنية”، بينما يتم دفعهن إلى “الموضوعات الناعمة” أو الاجتماعية فقط هذا الفصل النوعي في توزيع المهام يعيد إنتاج الفجوة المهنية و مزيد من الحرمان من الخبرة، ومزيد من التركيز القسري على ملفات بعينها
تقول إحدى الصحفيات م. م تعمل في احد الجرائد المحلية : أول ما بدأت أكتب عن العنف الأسري الذي وضح تزايده مؤخرا رئيس التحرير قالي : “إحنا عايزين موضوعات من الشارع نتكلم عن البطاله تكسير الشوارع اهم من اننا نتكلم عن كلام ده ” اللي وجعني بجد إن زميلي كتب تحقيق سياسي واضح فيه انحياز كامل ولا يمت للواقع ب صلة ، ومع ذلك محدش اتكلم بالعكس، اتشجّع واتقاله: “شغل جامد”
العنف الرقمي: حيث يصبح الرأي جريمة
على منصّات التواصل الاجتماعي، يتضاعف حجم العنف ضد الصحفيات بصورة لافتة، خاصة ضد من يكتبن من زاوية نسوية صريحة، أو يعالجن موضوعات تمس بنية السلطة الذكورية في المجتمع. فالمساحة الرقمية التي يُفترض أن تكون مفتوحة للنقاش، تتحوّل بسرعة إلى ساحة عقاب، كلما ظهرت امرأة تُقدّم تحليلًا جادًا أو تحقيقًا صادمًا
الأنماط الأكثر شيوعًا للعنف
التنميط والتحقير تُهاجم الصحفية عبر تسفيه أفكارها، اعتبارها "جاهلة"، أو “بتتلكك”، أو “عاملة مهمومة بقضايا مالهاش لازمة”
التحرش اللفظي والرسائل الخاصة رسائل تحمل إيحاءات جنسية، صور غير مرغوبة، أو تعليقات جارحة على جسد الصحفية أو مظهرها
التشكيك في النوايا اتهام الصحفية بأنها “ضد المجتمع”، “تخرب الأسرة المصرية”، “عدوة الدين”، أو “بتنفّذ أجندة” ..الخ
التحقيقات التي تتناول العنف المنزلي، التحرش، فجوة الأجور، أو سلطة المؤسسات الأمنية والسياسية لا تُقابل بنقاش موضوعي المهاجمون لا يفككون الفكرة، ولا يناقشون البيانات، بل يذهبون مباشرة إلى “هي دي مين؟ وليه بتتكلم؟ وبتتكلم كده ليه؟”
الصحفية التي تُقرر أن تكسر الصمت ــ حتى بالدليل والمستند ــ تجد نفسها في مواجهة منظومة كاملة من الكراهية الرقمية:
تعليقات مهينة، محاولات إحراج علني، وتهديدات مكتوبة تصل أحيانًا عبر الحسابات الشخصية
في إحدى الحالات التي وثّقتها جندريست، تلقت صحفية شابة أكثر من 250 رسالة وتعليق "كومنت" خلال 48 ساعة بعد نشرها تحقيقًا عن العنف الأسري في صعيد مصر أغلب الرسائل لم تناقش كلمة واحدة مما كتبته؛ بل كانت تتراوح بين “اقعدي في بيتك”، “انتي بتشوهينا”، “مش شغلك” …. وتزداد حدّة العنف كلما لامست الصحفية قضايا تمس العادات الاجتماعية الراسخة
مثل نقد مفهوم “الستر”، أو مساءلة خطاب لوم الضحية، أو الكشف عن فجوة الأجور داخل المؤسسات فكل محاولة لتفكيك السلطة الأبوية تُقابَل بمحاولة لتفكيك الصحفية نفسها
الأثر الحقيقي هنا لا يكمن فقط في الهجوم، بل في الرسالة الضمنية رأيك ليس مسموحًا به، وصوتك ثمنه غالي، وظهورك العلني جريمة غير مُعلنة بعض الصحفيات ــ خصوصًا المبتدئات يصفن التجربة بأنها “عقاب” يُمارس ضد أي امرأة تختار أن تتكلم بوضوح ووشفافيه
أحد أخطر أشكال التحيّز اللي بيتم ضد الصحفيات هو التشكيك في أهلية الصحفية للحديث من الأساس بدل تفنيد المحتوى، يتم مهاجمة شخصها هذا الأسلوب يهدف إلى نزع الشرعية عن صوتها وتحويل معركتها المهنية إلى معركة دفاع شخصي، بما يثقل كاهلها نفسيًا ويقلل فرص استمرارها في المجال عندما تكتب صحفية عن العنف أو الفساد أو الحقوق، يتم استقبال رأيها كـ"تمرّد" على صورة المرأة الطيّعة غير المزعجة.
ويزداد العنف حدة مع الصحفيات ذوات الخلفيات الجغرافية أو الطبقية المختلفة، واللواتي يعملن خارج العاصمة أو في ملفات سياسية حساسة
تكلفة شخصية ومهنية
هذه التحيزات لا تأتي بلا مقابل العديد من الصحفيات النسويات يتراجعن عن كتابة موضوعات معينة خوفًا من الهجوم و أخريات يتركن المهنة تمامًا من تستمر تدفع الثمن على شكل إرهاق نفسي، شعور بالعزلة، أو خوف مستمر من الاستهداف الكراهية التي تواجهها الصحفيات ليست معركة شخصية، بل معركة على حق المرأة في أن تكون جزءًا من السرد، وصانعة له، لا مجرد متلقية ورغم كل العنف، لا تزال كثيرات يكتبن، يحققن، ويكشفن الحقيقة، لأنهن يعرفن أن الصمت هو المساحة التي يزدهر فيها العنف