احنا هنا

٠٢ نوفمبر ٢٠٢٥

بين المحاكم والصمت : حكايات نساء قلن “عايزة أطلّق”

قامت بكتبتها / زينب الامير
"عايزة أطلّق" — جملة قصيرة، لكنها تحمل وراءها حياةً كاملة من الصمت، والألم والانكسار

هي ليست  كلمتين فقط ، بل صرخة  امرأةٍ قررت أن تقول “كفى” بعد سنوات من التحمل والخوف والخذلان.
في السنوات الأخيرة، صارت هذه العبارة تُسمع أكثر على ألسنة النساء، كأنها طوق نجاة يتشبثن  به للخروج من دائرةٍ مغلقة من العنف والضغوط، رغم الوصمة التي تلاحق كل من تنطقها.
في مجتمعٍ يُدين المرأة لأنها الزوجة والأم المسؤولة عن الحفاظ على البيت مهما كان الثمن، تُصبح الرغبة في الطلاق جريمةً أخلاقية في نظر الآخرين، حتى لو كان الزواج نفسه ساحة عنفٍ لا تُطاق.
ورغم أن القانون يتيح للنساء طلب الطلاق أو الخلع، إلا أن الطريق مليء بالعقبات، تبدأ من نظرات اللوم وتنتهي في أروقة المحاكم حيث  تمتد  القضايا لسنوات طويلة.

تقول "هـ.ع": "أنا متزوجة منذ سبعة أعوام، امرأة عادية وبسيطة، وكان حظي أنني تزوجت متأخرة في العمر، فقبلت الزواج من رجلٍ أرمل توفيت زوجته أثناء ولادة ابنه، وتوليتُ تربيته كأنه ابني...".

تحكي قصتها بهدوءٍ يشبه الانهيار، عن سنواتٍ من الإيذاء البدني والنفسي، عن رجلٍ تبدّل من الحنان إلى العنف، وعن أهلٍ قالوا لها: "استحملي.. متخربيش بيتك" وعندما لم تحتمل أكثر وقالت "عايزة أطلّق"، جاء ردّ زوجها عنيفًا وقاسيًا: حلق شعرها بالكامل وألقاها في الشارع , وتقول"كنت أبكي وأنا أرى ملابسي مرمية على الأرض، حتى ملابسي الخاصة... حينها كُسِر في داخلي كل معنى للحياة " وهذه ليست حكايةً واحدة، بل مرآة لعشرات الحكايات التي لا تُروى، لنساءٍ قررن النجاة فوجدن أنفسهن في معركةٍ أخرى: معركة المجتمع، ومعركة القانون

"حق معلَّق بين المحاكم "

 

ورغم أن الطلاق حقٌّ للمرأة كما هو للرجل، فإن الطريق إليه مليءٌ بالعقبات القانونية والإجرائية. فالقانون المصري يفرّق بين الطلاق والخلع؛ فبينما يستطيع الرجل أن يُطلِّق زوجته بإرادته المنفردة ودون مبرر، تضطر المرأة إلى رفع دعوى أمام المحكمة لإثبات الضرر أو لطلب الخلع، وهو ما يستنزف وقتًا وجهدًا ونفقات باهظة.

وفقًا لقانون الأحوال الشخصية ، لا تُقبل دعوى الطلاق للضرر إلا إذا أثبتت الزوجة  الا اذى مادي أو معنوي، كالإهانة أو الضرب أو الهجر، وهي أمور يصعب إثباتها في ظل غياب الشهود أو الأدلة المادية، خاصةً أن معظم الانتهاكات تقع داخل البيت، خلف الأبواب المغلقة.

أما في حالة الخلع، فعلى المرأة أن تتنازل عن حقوقها المالية كافة — مثل مؤخر الصداق والنفقة والمتعة — مقابل الحصول على حريتها، وكأن القانون يعاقبها لأنها اختارت النجاة بنفسها.

تستمر هذه القضايا أحيانًا لسنوات داخل المحاكم، مما يجعل كثيرًا من النساء عالقات في زيجات مؤذية، لا هنّ متزوجات بحق، ولا مطلقات بحرية، بينما يُمارس عليهن ضغطٌ اجتماعي وديني يدفعهن للصمت والاحتمال 

"حين يصبح الصبر عبئًا... نساء يروين لماذا قلن: عايزة أطلّق"

تقول (س. أ):"أنا متزوجة منذ 14 عامًا، ولدي ثلاثة أولاد. كان زواجي تقليديًّا "زواج الصالونات " ، لكن مع الوقت أحببته وتعلّقت به، وأعطيته كل حبي ومشاعري، وكنت مثالًا للزوجة المثالية  طوال 14 عامًا لم أقصّر في شيء، حتى استيقظت يومًا على كابوس... ترك هاتفه صدفة، وكانت تلك أول مرة أفتحه فيها منذ زواجنا، لأن الثقة بيننا كانت عمياء
فوجئت بأنه يملك حسابًا على "فيسبوك" مليئًا بالفتيات وصور خادشة للحياء، بالإضافة إلى تسجيلات لمكالمات كان يجريها معهن و  كانت صدمة عمري!، خصوصًا أنه لم يُظهر لي شيئًا من ذلك ومن شدة الصدمة انهرت بالبكاء والصراخ، وتركت كل شيء وسرت في الشوارع لا أدري إلى أين أذهب، حتى وجدت نفسي آخر الليل أمام بيت أهلي، الذين كانوا يبحثون عني منذ الصباح. و قلت: عايزة أطلّق  بعدها حدثت مشاحنات ونزاعات، وبقيت شهرًا في بيت أهلي، إلى أن طلب هو السماح، و أجبرني أهلي على العودة خوفًا من الطلاق ومن أجل الأولاد عدت، لكن قلبي كان مكسورًا، واتفقت معه أنني عدت فقط لتربية الأولاد."

 

تقول (ش. س) أنا متزوجة منذ 16 عامًا، ولدي أربعة أولاد. أعتقد أنني منذ زواجي لم أشعر يومًا أنني متزوجة، خصوصًا أن الزواج كان تقليديًّا بحتًا، قائمًا على مصالح عائلية.
كنت موظفة، معتادة على جلب احتياجاتي بنفسي من راتبي الخاص. لاحظت منذ الخطوبة أن زوجي بخيل جدًّا، لا ينفق ولا يقدّم الهدايا كباقي الرجال، فقلت ربما خجول أو لا يجيد التعبير، لأنه محترم. لكن للأسف، بعد الزواج اكتشفت أنه بخيل بطبعه، يعتمد على والده في كل شيء، ولا يشعر بأي مسؤولية كنت أطلب منه الاهتمام دون جدوى، حتى أصبحت علاقتنا فاترة، ولا أدري كيف مرّت الأيام والسنين حتى صار لدينا أربعة أولاد كنت أشعر وكأنني في غيبوبة، أستيقظت منها على كابوس: الأولاد كبروا واحتياجاتهم زادت، وأنا كنت الأم والأب في الوقت نفسه، بينما هو غير موجود.
وفجأة سمعت أنه ينوي الزواج بأخرى، وكانت الصدمة  تركت المنزل وذهبت إلى أهلي، وقلت: عايزة أطلّق. فقالوا لي: ما تخربيش بيتك و عدت إلى بيتي، وأقسم أنه لم يتزوج وأنه سيتغير، لكني فقدت الأمل، ومات داخلي كل إحساس بالحياة، وكأنني جسدٌ يتحرك بلا روح، يقتلني الملل والفتور."

تقول "م. م":"أنا متزوجة منذ عامين، والآن مطلقة ولدي طفلة كنت كأي فتاة في قمة سعادتها أثناء الخطوبة، خصوصًا أنه من تقدم لخطبتي كان شخصية بارزة في المجتمع، بمستوى مادي مرتفع، وكنت أراه فارس أحلامي الذي كانت سندريلا تبحث عنه قلت لنفسي: أخيرًا وجدت جنة الدنيا. لكن المفاجأة أنني بعد الزواج بشهر اكتشفت أنه سيئ الأخلاق بكل المقاييس، بذيء اللسان، سليط، يتحدث إلى الفتيات أمامي دون أي احترام لمشاعري، وبخيل جدًّا  لم أتحمل، خصوصًا أنني نشأت في بيت يقدّس الأخلاق والتربية، وكنت مدللة والديّ ومع الأيام زادت المشاجرات واعتراضي على سلوكه، حتى قررت أخيرًا أن أقول: عايزة أطلّق. وبالفعل تطلّقت، وأصبحت حرة أعيش مع ابنتي، أمًّا ومطلقة في عمر صغير. واكتشفت أن السعادة ليست في المال أو الثراء، بل في الاحترام والكرامة

 

الضغوط الاجتماعية... حين يصبح الطلاق تهمة لا حقًّا


لا تُتَّخذ عبارة "عايزة أطلّق" بسهولة، فخلفها تراكم من الانكسارات والصمت والخذلان فحين تصل المرأة إلى هذه النقطة و النطق بها ، تكون قد استنزفت كل محاولات الصبر والتبرير والمصالحة.
لكن المجتمع لا يرى ذلك.
ففي كل مرة تُفكّر امرأة في الانفصال، تنهال عليها الأسئلة لا عن سبب ألمها، بل عن شكلها بعد الطلاق، وعن "الناس هتقول إيه"، و"الأولاد ذنبهم إيه"، و"ليه ما تستحمليش شوية".
يتحول قرارها إلى جريمة اجتماعية، تُدان فيها لا لأنها أخطأت، بل لأنها رفضت أن تستمر في حياةٍ تُهينها.
تُمارَس عليها ضغوط من الأسرة، من رجال الدين، من الأهل، وحتى من النساء أنفسهن، ليبقى البيت قائمًا مهما كان الثمن، وكأن استمرار الزواج — لا كرامة المرأة — هو القيمة العليا.
وبين الخوف من اللوم، والتهديد بفقدان الأولاد أو السمعة، تُضطر كثير من النساء إلى التراجع أو الصمت، أو العودة إلى بيتٍ تحوّل إلى سجن.

ما بين الواقع والقيد


القصص السابقة ليست سوى نماذج من واقع أكبر تعيشه آلاف النساء في مصر، تختلف تفاصيله من بيتٍ إلى آخر، لكن وجع النساء فيه واحد.
ففي كل حكاية سببٌ ظاهر للطلاق — خيانة، إهمال، عنف، بخل، أو غياب للمسؤولية — لكن خلف كل سببٍ هناك سلسلة طويلة من الخذلان، وضغوط المجتمع، وغياب الدعم، والخوف من اللوم والوصمة.
كثير من النساء لا يطلبن الطلاق لأنهن يكرهن أزواجهن، بل لأنهن يردن النجاة بأنفسهن، يبحثن عن مساحة صغيرة من الكرامة، عن صوت مسموع في حياةٍ أُسكتن فيها طويلًا.
الطلاق بالنسبة لهن ليس نهاية حياة، بل بداية وعيٍ مختلف، رغم قسوة الطريق وتعقيد القانون ونظرة المجتمع.
وما هذه الشهادات إلا محاولة لكسر دائرة الصمت، وللتذكير بأن الحديث عن الطلاق ليس دعوة للتفكك، بل دعوة للعدالة والاختيار الحرّ، حتى لا يبقى الزواج قيدًا، بل شراكة تقوم على الاحترام والإنصاف.

 

مقالات اخري

article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
نساء يعملن بلا أجر: كيف تُعيد الادوار الجندرية ترسيخ الظلم داخل البيت
ترسخ في الوعي الجمعي صورة نمطية قديمة عن “المرأة المثالية” بعد الزواج، تلك التي تُكرّس وقتها لخدمة المنزل والزوج والأبناء دون كلل أو شكوى. يُنظر إلى تعبها وكفاحها كشرطٍ أساسي لأن تُوصف بأنها “امرأة حقيقية”، وكأن قيمتها تُقاس بمدى انغماسها في العمل المنزلي، لا بقدرتها على تحقيق ذاتها أو توازن حياتها.وحين تحاول المرأة التخفيف عن […]
قرائة المزيد
article 1
١٨ أكتوبر ٢٠٢٠
ملاذ بلا عدالة” هل يتجاهل القانون المصري جرائم العنف الجنسي ضد الناجيات السودانيات”
فرضت حرب 15 أبريل 2023  بالخرطوم واقعاً امنياً مختلفاً للنساء السودانيات وجدت آلاف النساء السودانيات أنفسهن مضطرات لعبور الحدود نحو مصر، حاملات معهن ذاكرة الحرب و واقعًا جديدًا لا يقل قسوة عن  الواقع الذي هربن منه،  فمخاطر  العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي لا تعرف الحدود فتلاحقهن حتى في المنفى  بينما تعيق الحواجز الاجتماعية والقانونية […]
قرائة المزيد