وسط تصاعد الأزمة الاقتصادية في مصر، وتفاقم التحديات الاجتماعية والمهنية، تواجه الصحفيات المصريات واقعًا قاسيًا يتقاطع فيه التهميش مع العنف الممنهج بأشكاله،ما يؤدي إلى أزمات نفسية حادة واحتراق مهني مبكر. هذه الأزمة، غير المرئية في الخطاب العام، لا تتعلق فقط بالأجور أو الترقيات، لا تقتصر على الأجور أو الترقيات، بل تمتد إلى ما هو أعمق: الصحة النفسية والكرامة الإنسانية في بيئة عمل غير آمنة.
وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغت نسبة البطالة بين النساء في مصر 37.1% عام 2024، مقارنة بـ 9.8% بين الرجال. و في قطاع الإعلام، تُظهر الأرقام غيابًا صارخًا للنساء في المواقع التحريرية والقيادية، فضلًا عن تجارب متكررة من التهميش الوظيفي، والتشكيك في الكفاءة بناءً على النوع الاجتماعى، ومحدودية الفرص مقارنةً بالزملاء الذكور.
في ظل هذا المناخ، تتحول بيئة العمل الصحفي بالنسبة للنساء إلى حقل ألغام نفسي واجتماعي، يبدأ بتوقعات أسرية تقليدية، ويمتد إلى معايير مؤسسية غير مرنة، وغياب للدعم النفسي والمهني، وصولًا إلى التعرض المستمر للعنف اللفظي والجسدي والتحرش، وكل ذلك يحدث دون بنية حماية مؤسسية حقيقية.
الاحتراق النفسي هو حالة من الإرهاق الجسدي والعاطفي والعقلي الناتجة عن الضغوط المستمرة والمكثفة، خاصة في بيئات العمل أو الحياة اليومية المليئة بالتحديات. تُعتبر تلك مشكلة في تزايد مستمر في العصر الحديث، حيث يواجه الأفراد مستويات غير مسبوقة من التوتر والضغط النفسي، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على حياتهم النفسية والجسدية والاجتماعية
و الاحتراق النفسي لدى الصحفيات لا يحدث فجأة، بل يتسلل ببطء، عبر مهام مرهقة دون اعتراف وتقدير، قواعد غير مكتوبة تحابي الذكور، وتوقعات اجتماعية تضع النساء في صراع دائم بين العمل والأسرة
و في ظل هذا التواطؤ المؤسسي والمجتمعى على إسكات الألم، يصبح الصمت وسيلة الدفاع الوحيدة، وتتحول الصحفيات إلى ما يشبه "المقاتلات المنعزلات"، يقدمن جودة مهنية عالية، بينما يتآكلن داخليًا.
تفتقر غالبية المؤسسات الإعلامية في مصر إلى سياسات داخلية واضحة لحماية الصحة النفسية للعاملين والعاملات، فضلًا عن غياب آليات للإبلاغ عن العنف والتحرش الجنسي، وندرة فرص التدريب على السلامة النفسية بل في بعض الأحيان، يُنظر إلى الصحفية التي تطلب دعمًا نفسيًا كـ"شخص غير قادر على تحمّل ضغوط المهنة" و "ضعيفة"، مما يدفع كثيرات إلى كتمان معاناتهن.
ورغم بعض المبادرات الفردية أو المستقلة التي تسعى لتوفير مساحات دعم نفسي أو جلسات توعية، إلا أن تأثيرها لا يزال محدودًا في ظل غياب الإرادة المؤسسية والسياسية لمعالجة جذور المشكلة.
لا تنحصر الضغوط التي تواجهها الصحفيات داخل حدود المؤسسات الإعلامية فقط، بل تمتد إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع، حيث لا تزال تُعامَل المرأة العاملة في الصحافة، خاصة من تغطين قضايا النوع الاجتماعي وقضايا النساء والعنف القائم ضدهن ، باعتبارها "استثناءً" أو "امرأة تتجاوز الخطوط الحمراء" أو "مثيرات للجدل" لمجرد طرحهن قضايا مثل العنف الأسري أو الحقوق الإنجابية. هذا التوصيف المجتمعي يُنتج وصمًا مستمرًا يلاحق الصحفيات ليس فقط بسبب اختيارهن المهني، بل أيضًا لطبيعة الموضوعات التي يشتبكن معها.
فالصحفية التي تكتب عن العنف الأسري، أو تدافع عن الحقوق الإنجابية، أو تكشف أوجه التمييز في قوانين العمل والميراث، توضع في مواجهة مباشرة مع ثقافة -تري نفسها أنه محافظة- ترى في هذه القضايا تهديدًا للنظام القائم ويتم إلصاقها بعبارات مثل "مثيرة للجدل" لمجرد طرحها تلك القضايا
ومن التنمر بسبب رغبتها في اختيار التوقيت المناسب لها للزواج أو عدمه، إلى تساؤلات متكررة من نوع "كيف تسافر وحدها؟" أو "لماذا تكتب عن موضوعات؟"، تتعرض هؤلاء الصحفيات لضغوط نفسية مزدوجة، تجعل كل قرار مهني محفوفًا بكلفة اجتماعية باهظة.
وبين الأحكام المسبقة والتوقعات النمطية، تجد كثيرات أنفسهن محاصرات في دائرة من الرقابة المجتمعية، تُجبر الصحفيات على تبرير اختياراتهن المهنية ، بل أحيانًا الدفاع عن قناعاتهن الشخصية، في بيئة لا ترحم الخروج عن المألوف.
ما تحتاجه الصحفيات فعلياً يتجاوز شعارات "التمكين" التقليدية والتمثيل الرمزي ، بل خطوات وإصلاحات مؤسسية ومجتمعية تشمل إدماج خدمات الدعم النفسي ضمن سياسات المؤسسات الإعلامية، و توفير متخصصين للتعامل مع حالات الاحتراق النفسي والوظيفي والضغوط وكذلك تدريب المديرين/ات والعاملين والعاملات على التعامل مع الضغوط النفسية والتوعية ومناهضة التحرش والعنف القائم على النوع وتحويل الثقافة التنظيمية من التهميش إلى الدعم.
ووضع لوائح مؤسسية صارمة وملزمة لمحاسبة المتحرشين والمعتدين، مع ضمان سرية وحماية الناجيات و المُبلِّغات..
كما أن وجود وحدات للنوع الاجتماعي داخل المؤسسات، لرصد الانتهاكات وجعل المؤسسة الاعلامية محققة لتوازن النوع الاجتماعي و مستجيبة لاحتياجات الصحفييات، وتبني سياسات تحريرية حساسة للنوع، يمثلان خطوة أولى نحو كسر هذا الصمت الجماعي حول الصحة النفسية للصحفيات.
في لحظة يتراجع فيها الإعلام المصري، و تتآكل فيها ثقة الجمهور، لا يمكن لمؤسسة أن تستمر وهي تنهك أهم مواردها البشرية "الصحفيات الشابات الملتزمات المهنيات" إذا كان المجتمع يعتبر الصحفية "استثناءً" في مهنة مليئة بالتحديات، فإن الأجدى أن يكون الاستثناء في دعمها لا في عزلها
إن سلامة الصحفيات النفسية ليست قضية شخصية أو هامشية، بل شأن عام ومؤشر علي جودة الإعلام وحرية التعبير، معيار لعدالة المجتمع، لأن ظروف العمل غير الآمنة تعكس تمييزًا ضد النساء.