تعيش النساء في عالم تتقاطع فيه المسؤوليات اليومية مع القيود المجتمعية، وتتداخل فيه رغبتها في الاستقلال مع نظرات الشك والاتهام وبينما تسير مجتمعات كثيرة نحو الاعتراف بحقوق النساء وتمكينهن اقتصادياً واجتماعياً، ما تزال أنماط التفكير القديمة تحاصر آلاف النساء؛ فتصف العاملة بالطمع، والمستقلة بالأنانية، والطموحة بالتمرّد على "الدور الطبيعي ومع ذلك، تُولد من قلب التجارب القاسية حكايات تُعيد تعريف القوة الأنثوية من جديد؛ نساء اخترن مواجهة الحياة دون قناع، ورفضن أن يكنّ مجرد ظلّ في بيت أو رقم في مجتمع نساء صمدن أمام الفقد والضغوط، وبنين حيواتهنّ من الصفر
، وتحملن أدواراً مركّبة بين الأمومة والعمل والقيادة والمسؤولية
هذا المقال يتناول-من منظور نسوي نقدي-رحلة النساء المستقلات مادياً، ويُبرز إحدى القصص الواقعية التي تلخص حجم التضحية والصمود حين تُجبَر فتاة شابة على حمل عبء أسرة كاملة، ثم مواجهة مجتمع لا يرى من كل إنجازاتها سوى أنها "تشبه الرجال" كما يحلل الضغوط التي تواجهها الأمهات العاملات اليوم، والاتهامات التي تُرمى عليهن ظلماً رغم أن استقلالهن في كثير من الأحيان هو صمام أمان للأسرة وليس تهديداً لها إنه نصّ عن الحرية، عن الاستقلال، عن أن تكون المرأة هي ذاتها رغم كل شيء، وعن ضرورة إعادة كتابة قواعد العدالة الاجتماعية تجاه النساء
.
"أنا حُرّة ومستقلة"… جملة تهزّ جدران المجتمع
هكذا تقولها النساء حين يقررن التحرر من القيود العرفية والاجتماعية التي حجّمت أدوارهن لعقود. ليست الحرية هنا شعاراً نظرياً؛ بل فعل يومي، ومسار حياة مليء بالتحديات.
فالمرأة التي تختار العمل أو الدراسة أو بناء مشروع خاص لا تسعى للتمرّد، بل للعيش بكرامة، وتحمّل مسؤولياتها، وتأمين احتياجاتها المادية والمعنوية دون أن تكون عبئاً على أحد ورغم أن هذه الخطوات تفتح أبواباً جديدة نحو الاستقلال، إلا أنها غالباً ما تفجّر مقاومةً مجتمعية تنطلق من الخوف من "اختلال الأدوار" أكثر مما تنطلق من الحرص على النساء
لكن التغيير الحقيقي يبدأ حين تُدرك النساء أن استقلالهن ليس خروجا عن الدور الأنثوي، بل إعادة تعريف له: أن تكون امرأة قوية، قادرة، صاحبة رأي وقرار… لا مجرد تابع يعيش على هامش الحياة
حين ترتدي المرأة قناعاً ذكورياً لتصمد… قصة "ج – ع"
قصة "ج - ع" ليست مجرد سرد لحياة امرأة؛ بل هي مرآة لواقع آلاف النساء اللاتي يواجهن الحياة دون سند
بدأت القصة حين كانت في العشرين من عمرها، شابة رقيقة مدللة كما تقول، لا تعرف الكثير عن مسؤوليات الحياة ولكن رحيل والدها المفاجئ قلب ملامح عالمها رأساً على عقب، أصبحت الابنة الكبرى لأسرة مكوّنة من ثلاثة فتيات وطفل صغير، وأم مريضة لا تقوى على العمل. لم يمدّ أحد من الأقارب يد العون، لا خال ولا عم، وكأن اليُتم لا يكفي
لم يكن للعائلة باب رزق سوى محل بقالة صغير بالكاد يكفي قوت يوم. لم يكن لديها خيار. لم يكن أمامها ترف الضعف
نزلت إلى سوق العمل للمرة الأولى، وهي لا تعرف حتى كيف يُدار محل بسيط، وتقول:
"كنت أتعلّم وأنا أحارب، أتعثر في الصباح، وأقف في المساء لأن البيت ينتظرني."
تحملت مسؤولية البيع والشراء والتعامل مع التجار والزبائن في سوق قاسٍ لا يرحم، حتى وصفت نفسها بأنها أصبحت "رجلاً لا أنثى"
نسيت الراحة، نسيت نفسها… لكن لم تنسَ أخواتها ورغم كل شيء، جاءها عريس من الجيران بعد ثلاث سنوات كانت تعتقد أن الحياة قد تُنصفها أخيراً لكنه حين رآها تقود المحل، وتعمل ليل نهار، رفض أن تكون زوجته "تشبه الرجال" خيرها بين الزواج وبين أن تغلق المحل وتبيع أرزاق الأسرة لتحقق معه حلم امتلاك شقة
رفضت
دافعت عن حق أخواتها في الحياة. عن أمان الأسرة. فكانت النتيجة أن تركها العريس قائلا
"لن أتزوج برجل"
كلمات انغرست في روحها كسكين، تقول إنها يومها كسرت المرآة لأنها لم تعد تعرف نفسها ومع ذلك، لم تستسلم
كبر المحل، وأصبح سوبرماركت، وواصلت الوقوف وحدها. رفضت أن تعمل أخواتها معها حتى يكملن تعليمهن، وفعلاً أصبحت إحداهن طبيبة، والثانية محاسبة، والثالث يعمل في السياحة
لكن الصدمة الكبرى لم تكن من المجتمع أو من الخطيب السابق، بل من أختها نفسها
حين سأل خطيب أختها عن سبب عدم زواج "ج - ع" حتى الآن، أجابت أختها بسخرية:
"أصلها راجل البيت"
كانت تلك اللحظة أشد قسوة من كل ما سبق: التنمر لا يأتي دائماً من الغرباء… أحياناً يأتي من الذين منحناهم العمر كله
وحين بدأت "ج - ع" تستعيد حياتها وتعتني بنفسها، وتشتري سيارة لتسهّل على والدتها التنقل، انقلبت أخواتها عليها غيرةً وحسداً، وقرروا بيع السوبرماركت لتقسيم الأرباح
لكن الحسابات كشفت الحقيقة: أنها دفعت أكثر منهم جميعاً، وأن شبابها ضاع ليقفوا هم، ورغم ذلك… تخلّوا عنها
تصف تلك اللحظة بقولها:
"قتلوا فيّ الفرح… لكنهم لم يقتلوا قوتي."
اليوم، تعيش مع والدتها، تهتم بها، وتعيش لنفسها. لم تعد تنتظر شكراً من أحد، ولا تبحث عن اعتراف. أدركت أن الاستقلال ليس خياراً… بل نجاة
الأمّهات المستقلات مادياً… بين ضغط الواقع واتهامات الأنانية
قصة "ج - ع" تمثل شكلاً من أشكال الاستقلال، لكنّ أمهات كثيرات يخضن معركة مشابهة كل يوم
فالمرأة التي تعمل لا تسعى للترف أو الهروب؛ بل لتحسين حياة أسرتها، أو لتأمين مستقبل أطفالها، أو لمساندة زوجها، أو لبناء كيان شخصي مستقل
ومع ذلك، تُتهم بأنها أمّ أنانية، مقصّرة، "قاربت أن تفقد أنوثتها"، أو "تركت أطفالها للحياة”
لا أحد يسأل ماذا يحدث بعد عودتها من العمل؟
كم ساعة تقضيها بين الطهو والتنظيف ومتابعة الواجبات المدرسية؟
متى ترتاح؟
وأين وقتها الخاص؟
المجتمع نفسه الذي يصف الأم العاملة بالأنانية، يصف الرجل الذي يعمل الساعات الطويلة بأنه "مكافح" و"سند" إنها ازدواجية تُسقط العدالة من ميزان الأحكام
وأسوأ ما في الأمر أن كثيراً من الانتقادات تأتي من داخل الأسرة نفسها، لا من المجتمع فقط الأم العاملة تُوازن بين وظائف عدة: موظفة، أم، زوجة، ربة منزل، وابنة… وغالباً بلا دعم يذكر ومع ذلك، ينشأ الكثير من الأطفال وهم يرون في أمهم العاملة نموذجاً للقوة، لقدرة على التوازن بين الأدوار، ودرساً في الاعتماد على النفس
إن الاتهام بالأنانية ليس سوى انعكاس لثقافة لا تزال ترى المرأة كائناً يجب أن يتفرغ لخدمة الآخرين، وأن طموحها رفاهية يمكن الاستغناء عنها
نحو عدالة اجتماعية ترى النساء كما هنّ… لا كما يريدها المجتمع
إن حكاية "ج - ع" ليست حالة فردية، بل نموذجاً نسوياً صارخاً يفضح حجم الظلم الواقع على النساء المستقلات
فالاستقلال الذي يُفترض أن يكون مصدر قوة يتحوّل—في أعين المجتمع—إلى جريمة تستحق العقاب بالتنمر واللوم والاتهامات
لكن الحقيقة أبسط وأعمق النساء لا يبحثن عن الهيمنة أو كسر الأدوار… بل عن حياة تليق بكرامتهن
الاستقلال ليس تهديداً للأسرة، بل سنداً لها والعمل ليس خيانة للأمومة، بل حماية لها
والحرية ليست نزعاً للأنوثة، بل استعادة لها
في النهاية، المرأة المستقلة مادياً ليست امرأة أنانية
هي امرأة قوية، حملت ما لا يستطيع كثيرون حمله، ودفعت ثمن استقلالها من صحتها ووقتها وأحلامها
ودور المجتمع ليس معاقبتها أو إهانتها، بل دعمها وتمهيد الطريق لنساء أخريات يخضن معارك مشابهة
إنصاف المرأة لم يعد رفاهية
بل ضرورة لبناء مجتمع يفهم أن دور المرأة الحقيقي ليس في الانكسار، بل في القدرة على الوقوف مهما اشتدّ الألم